ابن عيشون الشراط.. (1)
يعتبر كتاب الروض العطر الأنفاس بأخبار الصالحين من أهل فاس من أشهر الكتب التي أرخت للتصوف ورجاله بالحاضرة الفاسية، وهو أيضا كتاب نفيس فيما يتعلق بالتاريخ الاجتماعي والسياسي والثقافي. وقد قامت الأستاذة الفاضلة زهراء النظام بتحقيق الكتاب الذي نشر ضمن منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط سنة 1997.
وبعد تحقيق وتدقيق استقر الرأي على أن مؤلف الروض هو الفقيه الصوفي أبي عبد الله محمد بن عيشون الشراط.. فمن هو هذا الرجل الفاضل الذي تجند للتعريف بصلحاء الحاضرة الفاسية مع ما يرافق ذلك من ضبط وتوثيق وتحقيق مجالي؟
لا نتوفر على معلومات كثيرة عن أسرة ابن عيشون التي عاشت في فاس، إذ لم يشتهر من أفراد هذه العائلة إلى المؤلف ووالده، والظاهر أنها لم تكن من الأسر الفاسية الشهيرة التي ذكرها ابن الأحمر المتوفى سنة 807/1404 في كتابه الشهير ذكر بعض مشاهير أعيان فاس في القديم، والعلامة سيدي عبد الرحمان بن عبد القادر الفاسي المتوفى سنة 1096/1685 في اختصاره للكتاب المذكور.
وقد بحثت محققة كتاب الروض زهراء النظام عن أثر لهذه الأسرة في كتب التراجم والمناقب فعثرت أثناء تصحفها لبعضها مثل تاريخ العلماء والرواة للعلم بالأندلس لابن الفرضي المتوفى سنة 403 هـ، وجذوة المقتبس في تاريخ علماء الأندلس للحميدي المتوفى سنة 488هـ، والتكملة لكتاب الصلة لابن الأبار المتوفى سنة 658هـ، على عدد من التراجم لأشخاص يحملون اسم عيشون ممن اشتهروا في الأندلس بالعلم والأدب والصلاح، عاش معظمهم بين القرنين الرابع والسابع الهجريين، ومنهم من حمل لقب الأنصاري؛ وقد تكون لأسرة ابن عيشون صلة بهذه الأسر التي عرفت بالأندلس، إذ يحتمل أن يكون أحد أفرادها قد دخل المغرب فيما بعد مع المهاجرين الأندلسيين واستقر بمدينة فاس.. وهذه مسألة طبيعية في سياق العلاقات التاريخية والجغرافية والإنسانية..
لم يكن ابن عيشون شخصا مشهورا، ولولا كتابه لما عرفنا عنه شيئا؛ وقد صدق ابن عربي إذ يقول: وتلك آثارنا تدل علينا؛ فانظروا بعدنا إلى الآثار.. لم يذكر كتاب التراجم من أسرة المؤلف غيره، وحتى الإشارات لهذا الرجل الفاضل كانت مقتضبة؛ لكن باعتمادنا على كتاب الروض نستشف معلومات عن المؤلف من حديثه عن نفسه ومسيرته. ونجد معلومات أخرى عن ابن عيشون عند من نقلوا عنه من المؤرخين مثل محمد بن جعفر الكتاني في سلوة الأنفاس ولفي بروفنصال في كتابه مؤرخو الشرفاء.
يذكر ابن عيشون في الروض أن والده هو محمد بن محمد بن طاهر بن عيشون، ووصفه بالصالح المجاهد، لكنه لم يذكر سنة ميلاده، وذكر أنه توفي شهيدا في قتال النصارى بحلق سبو سنة 1040هـ/1631م. ويفيدنا العلامة ليفي بروفنصال أن هذه الغزوة قام بها مجاهدو فاس بتحريض من المجاهد العياشي ضد الإسبان وقت احتلالهم للمهدية، المعمورة[1]، ودفن خارج باب الجيسة، بروضة شيخه في الطريق، مسعود الشراط. تفيدنا زهراء النظام في مقدمة تحقيق الروض أنه بالرغم من شهرة كتاب الروض بين كتب التراجم والمناقب؛ فإن صاحبه ظل غير معروف بين مؤلفي عصره، إذ لم يحظ كثيرا باهتمام المؤرخين[2]، ولعل السبب في ذلك يرجع إلى عدم شهرة المؤلف في مجال العلم، فمعظم الذين ذكروه، لم يذكروا أن له اهتماما بهذا الجانب، وبذلك ظلت معلوماتنا عنه ناقصة.
نستفيد من كتاب الروض أن المؤلف هو محمد بن محمد بن طاهر بن عيشون الشراط، ويتفق معظم المؤرخين على أن ولادة ابن عيشون كانت سنة 1035/1625-1626، وأن وفاته كانت سنة 1109/1697، وكانت حرفته حرارا، كما نفهم ذلك من ترجمته لشيخه حمدون لملاحفي، ولعل هناك صلة للقبة الشراط بحرفة الشراطين التي كانت من بين الحرف التقليدية المعروفة في فاس، والتي ربما يكون والد المؤلف قد احترفها من قبل، أو تلقب بها اعتبارا لشيخه في الطريق مسعود الشراط، ولعله أيضا كان فقيها؛ لأنه وصف بالمالكي مذهبا.
نسب ابن عيشون نفسه في الطريق لمسعود الشراط عن طريق والده وشيخه حمدون الملاحفي، ومسعود الشراط المذكور ممن انتسب في لأبي الحسن الشاذلي عن طريق شيخه أبي الشتاء. ومن خلال ما ورد في الكتاب من إشارات، نستنتج أن المؤلف لم يكن عالما بالمفهوم الموسوعي لكلمة عالم، بل كانت تربيته صوفية على يد شيخه المذكور، ولا يستبعد أن يكون له حظ من الفقه، لكن مؤلَّفَه “الروض” يدرجه لا محالة في عداد مؤرخي التراجم، ويحفظ له مكانه في رحاب العلم وأهله.
بالإضافة إلى الروض العطر الأنفاس بأخبار الصالحين من أهل فاس، وذيله التنبيه ينسب مترجمو ابن عيشون كتابات أخرى له تنتمي في مجملها إلى مجال العرفان وهي: تأليف في الأذكار، نسبه له محمد العربي القادري في كناشته؛ وتأليف في الأذان[3]، نسبه له محمد بن الطيب القادري في كتابه التقاط الدرر؛ وتأليف في الأدب، نسبه له إسماعيل باشا البغدادي في كتابه هدية العارفين؛ وكتاب في أشياخه يسمى سلسلة الأنوار[4] نسبه له محمد بن الطيب القادري في كتابيه نشر المثني والتقاط الدرر.
وتفيدنا الفاضلة زهراء النظام أن هذه المؤلفات غير معروفة ولا تعرف خزائنها، وبذلك ظل كتاب الروض بالرغم من الشكوك التي أحيطت بنسبته له هو الكتاب المعروف لهذا الفاضل المغمور..
في الدراسة الجيدة التي قدمت بها المحققة زهراء النظام لكتاب الروض تقول أن هناك من ينكر نسبة كتاب الروض لابن عيشون أو يشكك في ذلك اعتمادا على ما ذكره محمد العربي بن الطيب القادري في “كناشته” من أنه هو الذي ألف كتاب الروض بطلب من صاحبه محمد بن عيشون، وجمع فيه تراجم ثمانين من صالحي فاس إلا واحد، أولهم دراس بن إسماعيل وآخرهم مجبر، ثم استأجره ابن عيشون على نسخه، فنسخه له في بضع وثلاثين كراسة، وبعد ذلك، خرج القادري للحج، ثم مرض عقب رجوعه مدة أربع سنين، فلما نقه من مرضه، علم بتصرف ابن عيشون في الكتاب بالزيادة والحذف ونسبته إلى نفسه، فغضب وأغلظ القول لابن عيشون ومزق خطبة الكتاب، لكن ابن عيشون عوضها باسمه كما كانت..
وتشير زهراء النظام إلى أن الذي نقل هذا الاعتراض عن كناشة محمد العربي القادري هو أخوه عبد السلام القادري في كتابه المقصد الأحمد، وعنه نقل كثير من المؤلفين المتأخرين منذ عصر المؤلف مرورا بالمسناوي الدلائي في كتابه نتيجة التحقيق وسليمان الحوات في كتابه السر الظاهر والوليد العراقي صاحب الدر النفيس إلى محمد بن جعفر الكتاني صاحب سلوة الأنفاس. ولما رجعت محققة كتاب “الروض” إلى مخطوطتي “كناشة” محمد العربي القادري المحفوظتين بالخزانة الحسنية رقم: 2774 و2389، لم تعثر فيهما على نص الاعتراض المشار إليه..
والواضح أن ما نقل منها اعتراف من محمد العربي القادري أنها مادة جمعت لابن عيشون، ثم حررها حسب طريقته الخاصة وأضاف إليها تراجم بلغ عددها في القسم الأول خمسة، كما أضاف إليها، باتفاق قسما ثانيا هو المعنون بـ التنبيه على من لم يقع به من فضلاء فاس تنويه“. ولعل من جملة تصرف ابن عيشون في القسم الأول من الكتاب، إن صح الاعتراض، ترتيبه لتراجم الصالحين بحسب أحياء المدينة، وهو المنهج الذي اقتفى أثره فيه صاحب سلوة الأنفاس.. ولا تخفى الأهمية التاريخية والعمرانية والأنثربولوجية لهذا العمل المجالي الكبير..
ومهما يكن؛ فإن لابن عيشون حجة تأليف الروض العطر الأنفاس منذ عدة قرون، وحجة النقل عنه حتى من طرف المعارض الكبير محمد بن الطيب القادري ومن سار على نهجه ممن يضيفون عبارة والتشكيك عند الإحالة على كتاب الروض بقولهم المنسوب لابن عيشون.. “.
يتبع في العدد القادم
————————————————-
1. راجع لفي بروفنصال، مؤرخو الشرفاء، ص: 198.
2. ترجم لابن عيشون كل من: م. القادري، نشر المتاني، ج: 3. 84م. الكتاني، سلوة الأنفاس، ج: 2، ص: 35 ل. بروفنصال، المرجع السابق، ص: 198، بروكلمان، تاريخ الشعوب الإسلامية، ج: 2، ص: 683، إسماعيل باشا البغدادي هدية العارفين، ج: 2، ص: 305، ابن سودة، دليل مؤرخ المغرب الأقصى، ج: 1، ص: 51.
3. ورد ذكره في هامش الصفحة الأولى من إحدى النسخ “الروض” الموجودة في الخزانة الحسنية، وتحمل رقم: 3509، وسماه الناسخ باسم “روضة الأزهار“.
4. ورد كذلك ذكره في هامش نفس الصفحة من النسخة المذكورة وسماه الناسخ باسم “حديقة الأنوار في سلسلة السادات الأخيار“.
أرسل تعليق