ابن القطان (2)
لقد كان من شأني مريدا الكتابةَ عن ابن القطان ما كان. طودٌ شامخ، ومجْدٌ باذخ، أنّى يبلغ القلم الإعرابَ عن بعض ما له من عظيم الشأن. هيهات هيهات، وفرس الكلام كهام، وحلبة هذه الترجمة لا تُرى لها غاية، قد ركضت فيها لفرسان التراجم أجياد.
ولست أجد للإقدام على الكتابة في هذا الموضوع شفيعا إلا سلوك نهج الجمع لما قيل: الشِّكْلِ إلى الشكل، والترتيب لما كُتب: تقديمِ السابق على اللاحق، حتى تظهر بذلك جوانب من ترجمة ابن القطان واضحة جلية، وحتى يُعلم تسلل الكلام، حاذفا من ذلك ما كان مكرورا، مما لم يكن فيه من تأخر إلا ناسخا، اكتفاء بالأصل عن الفرع، واجتزاء بمن كان منشئا مؤسسا عمن كان ناقلا مؤكدا، وإن لم يَخْل صنيع هذا الأخير من فائدة.
ولست أدعي في هذا العمل سبقا ولا اختراعا، ويكفيني شرفا أن أوفق لحسن الجمع وجودة الترتيب.
قد حملني ما تقصّدته من حُسن الجمع على الاكتفاء من أقوال من ترجم ابن القطان بما كان ذا اتصال بشخصيته العلمية معرضا عما سوى ذلك مما كان سبب إيراده السياسة.
ولا يخفى أن ابن القطان حصل في زمن مائج، وكان رئيس الطلبة كما قال ابن عبد الملك[1]، وإمام القضاة، وصدر المفتين، قد خالط أولي الأمر مدة مديدة، وركنوا إلى سديد رأيه في كثير من النوازل، ولابد لمن كان هذا حاله خصوصا مع تقدم سن، وامتلاء الوطاب تجاربَ أن يكون له نظر في السياسة ورأي في الساسة، ولابد -والناس مختلفون- أن يُرضي قولُه أناسا، ويُغضب آخرين، وغَضَبُ من يروم الملك، ويحاول التغلب لا يقف له شيء، فربما أسرف في العقوبة، وبالغ في الإخمال، وأخذ بالظنة؛ فهذا وشبهه مما طُوِّلت بإيراده ترجمة ابن القطان في بعض الكتب لا أعرج عليه ناقلا ولا قائلا، ولا يَعْدِم الواقف عليه على مَحمل خير يصرفه إليه. وبالجملة فليس شيء من ذلك بغاض من منصب هذا الإمام شيئا، وقد بلغ فضلُه قِلالا فأنى يتطرق إليه ما يشين.
نعم لمن أورد ذلك من الأئمة المتقدمين وجه، وهم أهل عدالة وتُقًى، قد حُفظوا من الزيغ والهوى، والعصبية والتعنت، لكن وددت أن لو ذكروا إلى جنب ذلك ما أُثر عن هذا الإمام من فوائد علمية، وأنظار معرفية، أوردها في كتبه التي لم تصلنا؛ إذاً لحفظوا علما نافعا. وقد كان هذا الأمر قريب المتناول، لحداثة العهد، والاشتراك في البلد والأخذ عن تلاميذ هذا الإمام، والوقوف على خطه. ويعجبني في هذا، الإمامُ الناقد البصير أبو عبد الله الذهبي رحمه الله فإنه يجتهد ألا يخلي ترجمة من يذكره في كتبه المبسوطة من فائدة منقولة عن المترجم، أو حديث يرويه من طريقه، أو شيء من هذا، فحفِظ بذلك علما كثيرا نافعا. ولكل من أئمتنا رحمة الله عليهم وجهة خير يمّموها، والقصد أنني في ترجمة ابن القطان هذه سأقتصر على ما له علاقة بشخصيته العلمية دون سواها غير حاك ولا مناقش.
وأحسب أن هذه الشخصية يمكن التعريف بها من خلال خمسة أركان كبرى:
فركن لمشيخته، والتلميذ سر شيوخه؛
وركن لكتبه التي صنفها، وبآثارهم يعرف العلماء، وما أحسن قول الحافظ الذهبي في ترجمة ابن القطان من تذكرة الحفاظ : “طالعت كتابه المسمى بالوهم والإيهام الذي وضعه على الأحكام الكبرى لعبد الحق، يدل على حفظه وقوة فهمه”[2]. فتبينَ عظيم المقدار، بمطالعة أثر من هذه الآثار؛
وركن للكتب التي طالعها؛ فإن الكتب ظهيرٌ للمشايخ في تكوين الشخصية العلمية؛
وركن للموضوعات التي عالجها، واختيار الرجل قطعة من عقله، وأمارة على مبلغ علمه؛
وركن لتقويم أهل الفن له؛ فإنهم شهود عدل، وحكام قسط.
يتبع
———————————————
1. “الذيل والتكملة”، (السفر الثامن/القسم الأول؛ 169).
2. “تذكرة الحفاظ” 4/1407.
أرسل تعليق