ابن القطان المشيخة.. (79)
هذا هو الجزء التاسع والسبعون من هذه المقالات عن ابن القطان، وهو تتميم لما سبق من الكلام عن مشيخته. وتلك سلسلة أعرض فيها من وقفت له منهم على رواية جملة من دواوين العلم، أو ذُكر له شيء من التآليف فيه؛ ومن جملة أغراضي من ذلك: استعمالُه بعد الفراغ من جمعه في مناقشة كلام قيل عن ابن القطان، من كونه أخذ الحديث مطالعة. ولست ألتزم هنا بنسق معين في عرض هذه المشيخة، وإنما أجلب منهم من آنَسُ من نفسي أني استفرغت وسعا في جمع مادة ترجمته.
علي بن موسى بن علي السالمي، أبو الحسن ابن النقرات الجياني ثم الفاسي (كان حيا سنة 593هـ)
[القسم الحادي عشر]
استوفيت في القسمين التاسع والعاشر من هذه المقالات المُفْرَدَة لترجمة ابن النقرات ذِكْرَ ما حلاه به مترجموه من علوم؛ وسأعرض إن شاء الله تعالى في هذا القسم الحادي عشر ما تقلده من وظائف، وقد تقدم أنها كانت -فيما مضى- دالة على سَنِيِّ مكانة الرجل في العلوم، ورفيع محله مِن المعارف.
ثانيا: وظائف ابن النقرات
ذِكْر الوظائف في جملة مادة التراجم تدل عند المتقدمين على بعض حال المترجَم من علو الكعب في العلوم، مع دقة فهمٍ، وسعة نظر، وبراعة تنزيل، وشفوف على الأقران، وقد ذُكر ابن النقرات في كتب التراجم بوظائف ثلاث:
الأولى: التصدر للإقراء، وهذه توارد على ذكره مترجموه-وسبق جلب أقوالهم في ذلك معزوة إلى مصادرها[1]؛ والتصدر المذكور دَالٌّ على التمكن من فن القراءات، والانفراد بإتقانه بين النظراء.
الثانية: التصدر للتسميع. والمقصود بالتسميع عند الإطلاق: إسُماع كتب الحديث خاصة، وقد انفرد بذكره بالتصدر بالتسميع الذهبي في طبقات القراء فيما اطلعت عليه، فقال رحمه الله: “تصدر للإقراء والتسميع. أكثر عنه الحافظ أبو الحسن ابن القطان، وسمع منه الشرف المُرسي كتاب الموطأ، قال: حدثنا أبو الحسن ابن حنين الكناني صاحب ابن الطلاع“[2].
وتقدم في المقال السابق أن الحافظ الذهبي لعله أخذ تصدر ابن النقرات للتسميع من إكثار ابن القطان عنه-أي: من سماع الحديث-، وسماع الشرف المرسي كتاب الموطأ منه[3] ومثل ذلك يستلزم في الغالب التصدر للتسميع.
الثالثة: الخطابة بجامع القرويين[4]: وهي دالة على براعته في الإنشاء، وفصاحته في الإلقاء. وتوليه الخطابة في خصوص جامع القرويين الذي هو الجامع الأعظم بفاس: إحدى قواعد الملك، وعواصم الدول بالمغرب الأقصى يدل على أن ابن النقرات كان يشار إليه بفاس في زمانه بالتقدم في العلم، والجلالة في المحل، إذ جرت العادة ألا يتولى -في الغالب- خطابة هذا الجامع العتيق إلا خطباء العلماء. وقد صاغ الحافظ الذهبي أَمْرَ توليه خطابة القرويين بعبارة تشير إلى شيء من هذا المعنى حيث قال في ترجمة ابن النقرات: “نزيل مدينة فاس، وخطيبها“[5]؛ فَيُلَاحَظَ كيف جعل خطيبَ جامع القرويين، خطيبَ مدينة فاس برمتها.
هذا ما تيسر لي الآن الوقوف عليه من الوظائف العلمية الرفيعة التي تولاها ابن النقرات؛ وَمُنَاسَبَةُ ذكر الوظائف عَقِبَ ذِكْرِ مَا حلي به من علوم ظاهرة، وإمعانا في مراعاة المناسبة سأعرض إن شاء الله تعالى في المقال المقبل ما وَجَدْتُه منصوصاً عليه من مروياته في أصناف هذه العلوم، والمناسبة أيضا ظاهرة بينها وبين ما تقدم.
يتبع إن شاء الله تعالى
————————————————–
1. وَهُمْ تَبَعٌ لابن الأبار في التكملة لكتاب الصلة 3/375 حيث قال: “تصدر للإقراء بمدينة فاس” وينظر ذلك في: الذيل والتكملة س5، ق1/413، وطبقات القراء 2/699، ، وتاريخ الإسلام 12/1003، وجذوة الاقتباس ص: 481، والوافي بالوفيات 22/162.
2. طبقات القراء 2/699-700.
3. سيأتي الكلام مستوفى على هذا السند في القسم الخاص بمرويات ابن النقرات من هذه المقالات.
4. سبق النقل عن ابن الأبار أنه قال في التكملة لكتاب الصلة 3/375 في ترجمة ابن النقرات: “تصدر للإقراء بمدينة فاس، وولي الخطبة بجامع القرويين منها”، وتبعه في ذلك الناس ينظر: الذيل والتكملة س5، ق1/413، وطبقات القراء 2/699، والمستملح من كتاب التكملة ص: 346، وتاريخ الإسلام 12/1003، والوافي بالوفيات 22/162، وغاية النهاية 1/513، وجذوة الاقتباس ص: 481، ونفح الطيب 3/606، وشذرات الذهب 6/519.
5. طبقات القراء 2/699، وتبعه ابن الجزري في غاية النهاية 2/ 193، وابن العماد في شذرات الذهب 6/519؛ ومثله قول المقري: “نزيل فاس وولي خطابتها” نفح الطيب 3/605.
أرسل تعليق