ابن القطان – المشيخة.. (77)
هذا هو الجزء السابع والسبعون من هذه المقالات عن ابن القطان، وهو تتميم لما سبق من الكلام عن مشيخته. وتلك سلسلة أعرض فيها من وقفت له منهم على رواية جملة من دواوين العلم، أو ذُكر له شيء من التآليف فيه؛ ومن جملة أغراضي من ذلك: استعمالُه بعد الفراغ من جمعه في مناقشة كلام قيل عن ابن القطان، من كونه أخذ الحديث مطالعة. ولست ألتزم هنا بنسق معين في عرض هذه المشيخة، وإنما أجلب منهم من آنَسُ من نفسي أني استفرغت وسعا في جمع مادة ترجمته.
علي بن موسى بن علي السالمي، أبو الحسن ابن النقرات الجياني ثم الفاسي (كان حيا سنة 593هـ)
[القسم التاسع]
ذكرتُ في القسم الثامن من هذه المقالات المُفْرَدَة لترجمة ابن النقرات ما تيسر لي الوقوف عليه من مشايخه؛ وسأعرض إن شاء الله تعالى في القسم التاسع والعاشر ما نُسِبَ إليه من علوم، وفي الذي يليه ما تقلده من وظائف، إذ هي كانت -فيما مضى- دالة على سَنِيِّ مكانة الرجل في العلوم، ورفيع محله مِن المعارف.
علومه ووظائفه
المقصود بـ: “علومه”: فما نسبه إليه مترجموه من أصناف العلوم الشرعية، والعربية، والتجريبية؛
وأما المقصود وبـ: “وظائفه”: فما تقلده من وظائف شرعية، يُبْنى تَقَلُّدها على أساس العلم والمعرفة..
أولا: ما حُلِّي به ابن النقرات من علوم، وذُكر به من معارف
سأجلب تحت هذا العنوان: مَا حُلِّيَ به ابن النقرات في كتب التراجم من أَلْقابٍ علمية، وهي –كما هو معلوم- تشيرُ إلى ما تحقق به الرجل من صُنُوف المعارف، وأنواع العلوم.
لقد تتبعت ترجمة ابن النقرات في مصادرها المعروفة، فوجدت مترجميه بعد ابن الأبار لا يكادون يخرجون عما حلاَّه به، حيث ذكره بـ: القراءات، والأدب، مع حظ صالح من قرض الشعر، وختم ما حلاه به من أصناف العلوم المذكورة أعلاه بقوله: “إليه ينسب التأليف الموسوم بشذور الذهب في الكيمياء”[1].
ولم يزد عليه من تأخر إلا التوسع بذكر ابن النقرات بالمعرفة بالكمياء، حيث فخَّمُوا أمره في هذا الباب، وأوردوا أبياتا مختارة من كتابه شذور الذهب، أقاموها مقام الشاهد على تحققه بعلمي الكمياء والأدب، إذ جاء شذور الذهب مادةً محررة في علم الكمياء، صِيغَتْ في قالب أدبي رفيع. وسأذكر العلوم التي وقع النَّصُّ على تحقق ابن النقرات بها عِلماً، عِلْما؛ وهي: القراءات، الحديث، الأدب عموما، وقرض الشعر خصوصا، الكمياء.
أ. القراءات
ذُكر ابن النقرات بالمعرفة بهذا العلم في كافة ما وقعت فيه ترجمته من كتب، فقال ابن الأبار: “كان مقرئا“[2]، وزاد: “تصدر للإقراء بمدينة فاس“[3]، والتصدر لا يكون إلا بعد الشفوف على الأقران، بإتقان قضايا الفن، وعلو السند فيه.
وأورده الذهبي في طبقات القراء منوها به فقال: “المقرئ الخطيب”، ثم قال بعد ذكر بعض شيوخه: “تصدر للإقراء والتسميع”[4].
وتقدم ذكر مشيخته في القراءات في القسم الثامن من هذه المقالات، وسيأتي ذكر جملة ممن أخذ عنه هذا الفن، مع التنصيص على مَن أَخَذَه عنه في القسم الخاص بتلاميذه؛ وشيوخ الرجل الذين تخرَّج بهم في فن من الفنون، وتلامذته الذين خرَّجهم فيه يشيرون إلى محله في ذلك الفن.
ب. الحديث
لابن النقرات حظ أي حَظّ من علم الحديث الشريف، ولا يضره ما نقله ابن حجر عن ابن رشيد في غلطه في سند الموطأ[5] خصوصا إذا عُلم أن حافظ العصر الإمام ابن القطان -وهو من هو معرفة ونقدا- قد أكثر عنه فيما ذكره ابن الأبار[6]، والذهبي تبعا له[7]؛ وإكثار مثل ابن القطان من رواية الحديث عن شيخ، يدل على تحققٍ بفن الحديث، وسعة رِواية فيه، مع أسانيد عالية، قد يكون انفرد بها.
كما أن الذهبي ذكر ابن النقرات بالتصدر للتسميع؛ والمقصود به عند الإطلاق: إسماع كتب الحديث خاصة، ولم أر أحدا ممن ترجم لابن النقرات ذكره بالتصدر للتسميع إلا الحافظ الذهبي وهو إمام، فقال رحمه الله: “تصدر للإقراء والتسميع. أكثر عنه الحافظ أبو الحسن ابن القطان، وسمع منه الشرف المُرسي كتاب الموطأ، قال: حدثنا أبو الحسن ابن حنين الكناني صاحب ابن الطلاع”[8].
وقد يكون الذهبي أخذ تصدر ابن النقرات للتسميع من إكثار ابن القطان عنه، مضافا إليه سماع الشرف المرسي كتاب الموطأ منه، كما يدل عليه سياق الكلام.
هذا ما وَسِعه الحيز المخصص لهذه المقالات من جريدة الميثاق، وسأكمل إن شاء الله في القسم العاشر ما بقي من الكلام على العلوم التي حُلِّي بها ابن النقرات، وبقي منها: الأدب عموما، وقرض الشعر خصوصا، والكمياء.
يتبع إن شاء الله تعالى..
—————————————————-
1. التكملة لكتاب الصلة 3/375.
2. التكملة لكتاب الصلة 3/375، وانظر أيضا: الذيل والتكملة س5، ق1/413، وطبقات القراء 2/700، وغاية النهاية 2/ 193، وجذوة الاقتباس ص: 481.
3. التكملة لكتاب الصلة 3/375، وانظر أيضا: الذيل والتكملة س5، ق1/413، وتاريخ الإسلام 12/1003، وجذوة الاقتباس ص: 481.
4. طبقات القراء 2/699-700.
5. قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: علي بن موسى بن النَّقِرات. قال ابن رشيد: كان عدلا، فاضلا، إلا أنه لم يكن بالضابط، ولا من أهل العلم بالحديث، فإنه حدث بالموطأ بسماعه من يوسف بن محمد بن فُتُوح، عن الحافظ أبي القاسم خلف بن محمد بن الإمام، عن سعيد بن نصر، عن قاسم بن أصبغ، عن محمد بن وضاح، عن يحيى بن يحيى.
قال ابن رشيد: ولا نشك في سقوط رجل من الإسناد بين الحافظ أبي القاسم، وبين سعيد بن نصر، والوَهَم فيه من ابن النَّقِرات، وقد واصلت البحث عن ذلك فوجدتُ بخط عثمان بن محمد العَبْدَري أنه قرأ الموطأ على قاسم بن محمد القضاعي ابن الطويل، عن يوسف بن فتوح، عن خلف بن الإمام، حدثني أبو سعيد الغضائري عن سعيد بن نصر.
قال: فهذا ابن الطويل قد ذكر الواسطة، لكنني إلى الآن لم أعرفه، لكن له غَنَاء في الإسناد عنه. انتهى كلامه.
وقد حدث أبو عبد الله محمد بن أبي الفضل المُرْسِي بالموطأ عن ابن النَّقِرات بهذا الإسناد وذكر أنه سمعه منه سنة 590 وفيه هذه العلة.
وابن النَّقِرات هذا هو الشاعر الذي نظم شذور الذهب في علم الكيمياء فيما يُقال”. انتهى كلام ابن حجر في لسان الميزان بنصه 6/33. سبق الكلام عليه في الأقسام: 4-5-6-7 من هذه المقالات الخاصة بابن النقرات.
6. فقال: “أكثر عنه أبو الحسن ابن القطان ” التكملة لكتاب الصلة 3/375.
7. تاريخ الإسلام 12/1003، طبقات القراء 2/700.
8. طبقات القراء 2/699-700.
أرسل تعليق