ابن القطان – المشيخة.. (66)
الشريف ابن الصيقل
محمد بن عبد الله بن طاهر الحسيني (ت 609هـ)
(القسم الرابع)
تكلمت في القسم الثالث من هذه المقالات على ثالث أجزاء ترجمة ابن الصيقل الذي ضمنته “الآخذين عنه” و”وظائفه“، وسأخصص هذا القسم لجلب ما وقفت عليه من تحليات العلماء له؛ لأن هذه التحليات مما ينبئ على محل المترجمين، ويعرب عن منازلهم.
تحليته
اقتصرتُ من هذه التحليات، على ما وقفت عليه عند كبار المؤرخين الثقات، والأئمة الأثبات: عبدُ الواحد المراكشي -وقد لقي المترجَم-، وابنُ الأبار، وابنُ الزبير، وابنُ عبد الملك، وعَصْرُهم قريبٌ من عصْر المترجَم، وقد نقلوا من كتب من أَخَذ عن مترجمنا؛ ولابن عبد الملك المراكشي منهم مزيد معرفة بأهل مراكش والواردين عليها: كابن الصيقل، خصوصا وأنه كان ذا وجاهة ومحل من السلطان، ومثل هذا الضرب من الناس تتوفر الدواعي لنقل أخبارهم، والتفتيش عن أحوالهم؛ فَثَناءُ مؤرخ مُنَقِّر مُطَّلِع كابن عبد الملك على ابن الصيقل، -وحاله كما عَرَفْتَ- مما يدل على ما كان عليه هذا الأخير من رفعة الحال في العلم، وعلو المقام في العمل، ولو لم يصلنا من تحليات العلماء لابن الصيقل إلا تحلية ابن عبد الملك، -وقد طَوَّلَ النَّفَس فيها، وأبدى وأعاد- لكان لوحده كافيا، وبالمقصود وافيا.
وأما ابن أبي زرع فنقلت قَوْلَه؛ لأنه جَمَّـاعَةٌ مُلَخِّصٌ، فلم أُرِد أن أغادره، وقد ثبت له هذا الفضل.
وهؤلاء الأئمة المذكورون جميعها من أهل هذه الجهة المغربية.
ثم ختمت هذه التحليات بما صَدَرَ عن الحافظ الذهبي: إمام المؤرخين، والمقدم في صناعة النقد، وأحد أعظم المطلعين على أحوال الرجال، وقد وصف مترجَمنا بأوصاف عالية جدا، فذكره بالحفظ، والإمامة، والذِّكر للحديث متونا وأسانيدَ، وهذا أوان سياق نصوص كلام هؤلاء الأئمة:
قال عبد الواحد المراكشي وهو ممن لقي ابن الصيقل بمراكش ودخل بيته، بأن مترجَمنا كان له: “حظ جيد من معرفة أصول الفقه، وأصول الدين، وشيء من الخلاف، اتصل بأمير المؤمنين أبي يوسف شهور سنة 587 فحظي عنده وكانت له منه منزلة“[1].
قال ابن الأبار: “كان معتنيا بسماع الحديث، ذاكرا لأسانيده ومتونه“[2].
قال ابن الزبير نقلا عن شيخه أبي الحسن الغافقي: “واحد وقته فصاحة، وخطابة، ومشاركة في العلوم الدينية“[3].
قال ابن عبد الملك: “كان راوية للحديث حافظا لمتونه بصيرا بعلله، عارفا برجاله مشرفا على طبقاتهم وتواريخهم، عني بهذا الشأن أتم عناية، ودرسه ببلده، واستدرك على الأحكام الكبرى لعبد الحق أحاديث كثيرة في أكثر الكتب رأى أن أبا محمد أغفلها وأنها أولى بالذكر مما أورده أبو محمد في الأحكام، دل ذلك على حسن نظره وجودة اختياره، ومال وقتا في فاس إلى التحليق بالوعظ والتذكير فانجذبت نفوس الناس على طبقاتهم إليه، وكان وقور المجلس نظيف الملبس جميل الشارة.. فكان محمود السيرة، مشكور الأحوال، صادعا بالحق، جزلا مهيبا مشهور العدل إلى أن توفي“[4].
قال ابن أبي زرع: “كان أوحد عصره فصاحة ومشاركة في جميع العلوم الدينية والدنيوية، عالما بالأصلين: أصول الدين، وأصول الفقه، ومسائل الخلاف، ولي قضاء الجماعة للمنصور، وكان عادلا فاضلا ورعا لم يُعرف له في أحكامه ميل، ولا يقبل هدية من أحد من حين ولي القضاء إلى أن مات، وكان قبل أن يلي القضاء ينتحل طريقة الوعظ والتصوف والتدريس، واتصل بالمنصور سنة سبع وثمانين وخمسمائة، فحظي عنده، وكانت له عنده منزلة عظيمة، نقل عنه أنه قال: وصل إلي من صلات أمير المؤمنين المنصور منذ عرفته إلى أن مات، تسعة عشر ألفا دون الخلع والمراكب والإقطاع، ولي قضاء الجماعة، ولم يزل قاضيا إلى أن مات باشبيلية بعد رجوعه من غزوة العقاب، وكان أحد الأجواد الكرماء، مدحه جماعة من الفقهاء والأدباء، فممن مدحه من فقهاء الأندلس وأعلامها القاضي محمد ابن نوح الغافقي قاضي بلنسية، امتدحه بقصيدة أولها:
تخيرت فانهض في رضى الله واصعد وحل على التوفيق ما شئت واعقد“[5].
قال الذهبي: “كان محدثا حافظا إماما“[6]، وقال: “كان معتنيا بسماع الحديث، ذاكرا لمتونه وأسانيده“[7].
هذه أهم الأقوال الواردة في تحلية ابن الصيقل، وسأخصص إن شاء الله تعالى القسم الخامس للكلام على مروياته، ومصنفاته، خاتما إياه بما قيل في وفاته: تاريخا، ومكانا..
——————————————————————-
1. المعجب في تلخيص أخبار المغرب، ص: 229.
2. التكملة لكتاب الصلة، 2/384.
3. صلة الصلة، 3/25.
4. الذيل والتكملة، س: 8، ق: 1/308.
5. الذخيرة السنية، ص: 48.
6. تاريخ الإسلام، 13/ 197.
7. المستملح، ص: 180.
أرسل تعليق