ابن القطان.. المشيخة (3)
هذا هو الجزء الثالث من هذه السلسلة من المقالات التي أكتبها عن الإمام ابن القطان. وقد خصصت هذا الجزء للكلام عن شيوخ ابن القطان؛ لأنهم بُناةُ شخصيته العلمية، وصَنَعَةُ هويته المعرفية، فالتعريف بشيوخ المترجَم من جملة التعريف به، ويستدل على مَحَالِّ العلماء ومراتبهم بالمقروء من العلوم، والمُتلمذ عليه من الشيوخ؛ إذ العلم معنىً لا يَنتقل -غالبا- سليما من التحريف، وأعوجِ الفهوم إلا إذا انتقل من أفواه المشايخ إلى صدور التلاميذ.
ثم إن للتوقف عند مشيخة ابن القطان على وجه الخصوص دواعيَ وجيهةً، وأسبابا معقولة: فمن أول هذه الأسباب جَمْع بعض مادة “برنامج شيوخه” الذي لا يعلم له وجود، والذي كان من موارد ابن الأبار في التكملة[1] وابن عبد الملك في الذيل[2]، وذكره في ترجمة ابن القطان، وتوارد مترجموه على وصفه بالإفادة[3]. ومنها: الاحتيال لفهم كلمة للحافظ الذهبي على الوجه السليم، وحملِها على المعنى المستقيم، فإنه قال عن ابن القطان كلمة سائرة، فذكر أنه أخذ الفن مطالعة. وهذه الكلمة عندي مشكلة غاية الإشكال مغمغمة، مبهمة المعنى غير واضحتَهُ. والذهبي إمام ناقد وحافظ بارع، ومؤرخ ذو اطلاع واسع، وخبرة تامة، واطلع مما يتعلق بابن القطان على شيء كثير فاتَ غيرَه الاطلاعُ عليه، ولكن مع ذلك إذا عرضتُ كلام الذهبي على حال ابن القطان الذي تصفه كتب التراجم ومنها كتب الذهبي نفسِه، وجدتُ هذا الحال نَفورا عن هذه الكلمة متجافيا عنها، وقد اجتهدت لدفع هذا الإشكال الثائر في نفسي، فحاولت ذلك بكل طريق فلم يندفع. ولست الآن بصدد بيان وجوه هذا الإشكال في كلام الإمام الذهبي رحمه الله تعالى، فلذلك مقال مفرد سينشر قريبا إن شاء الله تعالى، وإنما القصد بهذا الاستطراد بيان أهمية التعريف بمشيخة ابن القطان وأن ذلك مدخل حسن لكشف بعض ما يمكن أن يكون في ترجمة هذا الإمام من غموض وحل ما يعتري جملة من كلام من ترجَمَه من إشكال.
ومشيخةُ ابن القطان على قسمين من حيث الجملة: قسم أخذ عنه سماعا، مع ما اقترن بذلك من ملازمة، وهي تقتضي الإكثار، والتحصل على دقيق المعرفة بالفن. وعمدة هذا الإمام في فنونه على هؤلاء الذين أكثر من الأخذ عنهم والملازمة لهم.
وحينما سرد ابن عبد الملك شيوخ ابن القطان: ابن يحيى، وابن مضاء، وابن عميرة، والسنهوري، والكلاعي، وأبا بكر الفصيح، والطليطلي، وابن خروف، وابن موسى، وابن النقرات، ونجبة، وابن واجب، وأبا الصبر السبتي، وابن البقار، وابن الفخار، والتجيبي، والكتاني، وابن عيسى، وابن سلمة، والقورائي، وابن عات، وأبا القاسم ابن بقي، وابن الملجوم، والتادلي، وابن السكاك، وابن زيدان، والغافقي، والقزولي، وابن المواق؛ قال: “هؤلاء لقيهم وأكثر عنهم”[4]. وقسم أخذ عنهم إجازة. وهؤلاء فيهم أعلام، وأخذه عنهم بالإجازة، إذ لم يتيسر له سواها دليل عناية وآية استكثار.
(يتبع)
———————————————-
1. القسم الأول المفقود، ص: 214.
2. الذيل والتكملة لكتابي الموصول والصلة س8/ق/1/166.
3. أنظر مثلا ترجمة ابن القطان في: كفاية المحتاج، وشجرة النور.
4. الذيل والتكملة لكتابي الموصول والصلة س8/ق/1/165-166.
أرسل تعليق