ابن القطان – المشيخة (34)
هذا هو الجزء الرابع والثلاثون من هذه المقالات عن ابن القطان، وهو تتميم لما سبق من الكلام عن مشيخته. وتلك سلسلة أعرض فيها من وقفت له منهم على رواية جملة من دواوين العلم، أو ذُكر له شيء من التآليف فيه؛ ومن جملة أغراضي من ذلك: استعمالُه بعد الفراغ من جمعه في مناقشة كلام قيل عن ابن القطان، من كونه أخذ الحديث مطالعة. ولست ألتزم هنا بنسق معين في عرض هذه المشيخة، وإنما أجلب منهم من آنَسُ من نفسي أني استفرغت وسعا في جمع مادة ترجمته.
أبو بكر الفصيح: عتيق بن علي بن حسن الصنهاجي عُرف بالحَمِيدي (تـ 595هـ)
القسم الأول
فقيه، محدث، أديب، مغربي قُحّ، صنهاجي صليبة، من أهل هذه العدوة أَصْلاً، وَمَوْلِدا، وَنَشْأة، وَوَفاة. ونُسِبَ في جملة من كتب التراجم المشرقية إلى الأندلس[1]، وهو تَجَوُّزٌ سائغ، إذ قد يُنْسب المغربي أندلسيا، ويُنْسب الأندلسي مغربيا، وهذا الأخير جِدُّ شائع.
ولنرجع إلى أصله، فقد قال ابن الأبار في التكملة: “أصله من مكناسة الزيتون ونشأ هو بمدينة فاس وأخذ عن مشيختها وهو زرهوني ولا أدري لم يعرف بالحميدي“[2]، وقال ابن الديثي:”من أهل المغرب”[3].
والحَميدي -بفتح الحاء-[4]، وهو يَشْتَبِهُ بالحُميدي مصغرا، ولأجل ذلك ذُكرت هذه النسبة في كتب المشْتبه للتمييز بين الحُميدي –بضم الحاء- وهم جماعة، منهم مشاهير: كشيخ البخاري، والجامع بين الصحيحين، وبين الحَميدي -بالفتح-، وهم جماعة أيضا، منهم: مترجمنا[5].
لأبي بكر الفصيح رحلة واسعة، وسماع من كبار، وتفقه على جِلَّة، فقد سمع بمكة ومن شيوخه بها: الميانشي صاحب “ما لا يسع المحدث جهله“، وبغداد، والقاهرة، والإسكندرية ومن شيوخه بمصر: أبو محمد بن بري، وأبو طاهر السلفي، وأقام بالعراق مدة مكنته من التفقه في الخلافيات[6]، ودراسة المذهب الشافعي؛ قال ابن الدبيثي في ترجمته من ذيل تاريخ مدينة السلام: “أقام بها –يعني بغدادا- متفقها على مذهب الشافعي رضي الله عنه“[7]. ومن شيوخه بالعراق: أبو السعادات بن زُريق، وأبو محمد ابن الصَّابوني، وأبو أحمد ابن سُكَيْنة، والقاضي أبو العباس ابن المأمون[8]، وأبو القاسم بن فضلان[9].
ولقد كانت هذه الرحلة الواسعة الطويلة سببَ امتلاءٍ بِزَاخِر المعارف، ووَافِرِ العلوم، قال ابن الأبار: “كتب بخطه علما كثيرا“[10].
للمترجم أثر في رِحْلَته مشرقا ومغربا، فأما بالمشرق، فقد أنشأ مقامة في وصف بغداد سُمعت منه هناك[11]، وأما بالمغرب فقد أخذ الناس عنه أيضا أثناء قفوله، بتونس وتلمسان[12]، وأما ببلده هذا المغرب الأقصى فقد أخذ عنه جماعة من الجلة منهم: ابن القطان؛ نص ابن الأبار على أخذه عنه، وأورد من طريقه عنه خبرا[13].
وفاته
لم يحرر كثير ممن ترجم أبا بكر الفصيح وفاته تاريخا ومكانا، فأما ابن الدبيثي فقال: “وعاد متوجها إلى بلده، فمات قبل دخوله المغرب، ويقال: توفي بمصر. والله أعلم”[14]. وأما الذهبي فقال في المشتبه: “ولي قضاء عدن، ومات باليمن“[15]. وأقره الحافظ في تبصير المنتبه[16]. وتعقبه ابن ناصر الدين فأجاد، فقال رحمه الله بعد نقله كلام الذهبي المذكور أعلاه: “كذا وجدته بخط المصنف، ومنه نقلت، وفيه نظر، فإن الحَميدي هذا ولي قضاء المَعْدن وهي بالميم المفتوحة وسكون العين المهملة، فقال أبو العلاء الفرضي فيما وجدته بخطه: تولى القضاء بالمَعْدن وتوفي هناك. انتهى. وأرى المعدن هذا، البليدة التي بديار بكر قريبة من إسعرد. والله أعلم“[17].
ومع هذا الانتقاد الوجيه، بقي كلام ابن ناصر الدين محتاجا إلى إصلاح وتوضيح، وقد جَوَّد الأثباتُ من المؤرخين المغاربة توريخَ وفاته، وتحديدَ مكان ذلك، حيث نقلَ ابن الأبار عن أحد تلامذته-وهو أبو الربيع ابن سالم، وهو ضابط مشهور-أنه مات بمراكش سنة (595هـ)[18]، وقد نقل عن ابن الأبار ذلك، -بل الترجمةَ بحروفها، مع الاقتصار عليها- ابنُ القاضي في الجذوة[19]، وعنه التعارجيُّ في الإعلام[20]، والزركلي في الأعلام[21].
وسأعود إلى الكلام على بقية هذه الترجمة في المقال اللاحق إن شاء الله تعالى.
—————————————–
1. الوافي بالوفيات (20/14).
2. التكملة (4/26).
3. ذيل تاريخ مدينة السلام (4/591).
4. المستفاد من ذيل تاريخ بغداد (1/132).
5. المشتبه للذهبي (1/250)، وتبصير المنتبه بتحرير المشتبه لابن حجر(2/516)، وتوضيح المشتبه لابن ناصر الدين(3/328-329).
6. التكملة (4/26).
7. ذيل تاريخ بغداد (4/591).
8. ذيل تاريخ مدينة السلام (4/591).
9. المستفاد من ذيل تاريخ بغداد (1/132).
10. التكملة (4/26).
11. الوافي بالوفيات (20/14).
12. التكملة (4/27).
13. التكملة (4/26).
14. ذيل تاريخ بغداد (4/591).
15. المشتبه في الرجال: أسمائهم وأنسابهم (1/250).
16. تبصير المنتبه بتحرير المشتبه (2/516).
17. توضيح المشتبه (3/329).
18. التكملة (4/27).
19. جذوة الاقتباس (2/455).
20. الإعلام بمن حل مراكش وأغمات من الأعلام (9/5).
21. الأعلام للزركلي (4/201-202).
أرسل تعليق