ابن البيطار (1)
استكمالا لما كنت بدأته من التعريف ببعض علماء الطبيعة بالمغرب والأندلس، وبحثا عن ربط ماض علمي إنساني مشرف بحاضر مغيب لعلوم الطبيعة والإنسان من أجل استشراف مستقبل واعد تدل كل القرائن على أنه ممكن التحقق إذا صدقت النوايا وتوفرت الهمم. في هذه الحلقة سنقف مع عالم ذي صيت عالمي، وهو يعتبر من أبرز علماء النبات والصيدلة على الإطلاق، يتعلق الأمر بالعلامة النباتي الصيدلي ابن البيطار.
وقد كنت خصصت مقالة للعلامة النباتي ابن الرومية في العدد 36 من جريدة ميثاق الرابطة الغراء، وقلت؛ أنه لما توفي بعد حياة علمية حافلة باشبيلية في شهر ربيع الآخر سنة 637هـ 1239م، خلفه تلميذه ابن البيطار المالقي فحمل علمه، وبرع مثله في علم النبات، وتجول مثله في المغرب والمشرق وطاف بمصر والشام وآسيا وبلاد اليونان، ووضع عدة تصانيف في الأدوية النباتية أشهرها الجامع لمفردات الأدوية والأغذية الذي ترجمه العلامة لوسيان لوكلير إلى الفرنسية، وانتفعت به أوربا كثيرا..
ولد ابن البيطار في الربع الأخير من القرن السادس الهجري، نهاية القرن الثاني عشر الميلادي في مدينة مالقة الأندلسية، في زمن تزاحمت فيه الصراعات السياسية والاضطرابات المذهبية والحروب الضارية من أجل السلطة والحكم، بالإضافة إلى تربص ملوك قشتالة بالمسلمين واستغلال خلافاتهم من أجل استعادة النفوذ الإسباني على الأندلس، وكان حكم المرابطين وقتئذ قد أوشك على النهاية لكي يخلفه حكم الموحدين بالمغرب والأندلس، وابن البيطار منسوب إلى أسرة مشهورة في مالقة تعرف باسم البيطار ويحتمل أن يكون لقب هذه الأسرة راجعا إلى أنها كانت تشتغل بالبيطرة..
ونقرأ في دائرة المعارف الإسلامية أن ابن البيطار كان قد عاش فترة من حياته الأولى في مالقة مسقط رأسه؛ وأنه لم يغادرها إلا بعد أن قارب العشرين من عمره، وتلك ولا شك فترة من العمر كفيلة بظهور مواهبه في النواحي العلمية، وإبراز ميوله الخاصة إلى دراسة النباتات والأعشاب الطبية، وما يرتبط بذلك روحيا من الارتباط بالأرض والبيئة والكائنات.. أنعم وأكرم..
وكان ابن البيطار أثناء الفترة التي أقامها بمسقط رأسه يتلقى العلم على أستاذه أبي العباس أحمد بن مفرج المعروف بالنباتي أو بابن الرومية الأشبيلي ويروى أنه كان يخرج مع أستاذه أبي العباس لجمع الأعشاب من منطقة اشبيلية وكان التلميذ ذي الهمة العالية يساعد أستاذه الكبير على ملاحظة أوصاف النباتات ودراسة خواصها الطبية، فنشأ منذ أول حياته عشابا، يدرس في وعي وفهم ذكي أوصاف النباتات المختلفة، وخواصها ومزاياها العلاجية، وكيفية استخراج الدواء منها والجرعات المناسبة، فجمع بين الطب والصيدلة والنبات[1].
وكانت أكثر الأدوية وقتئذ خلاصات طبية تؤخذ من الأعشاب، ومن أجل ذلك عرف الأطباء بكونهم عشابين، وإن كان كثير من هذه الأدوية يؤخذ من مواد أخرى، كالمواد الحيوانية والمعدنية.
ويلاحظ أن الهدوء لم يسد في مالقة أثناء مقام ابن البيطار فيها، فقد تتابعت الأحداث المثيرة في الأندلس، وعلى الرغم من ذلك حافظت الحركة العلمية على توهجها، خصوصا علوم الطبيعة التي كان المتخصصون فيها يمارسون علمهم بكثير من الاستقلالية الفكرية والسياسية، ولم يكن معاشهم في الغالب مرتبطا بخدمة سياسية، اللهم ما كان من انسجام بين أهل العلم والسياسية في ظروف استثنائية تؤتي أكلها بفضل من الله، غير أن هذه ليست القاعدة، ونماذج مثل ابن زهر وابن رشد وابن البيطار وابن الجزار لا تشكل القاعدة..
وكانت القاهرة ودمشق في تلك الأيام قاعدتين كبيرتين من قواعد العلم في المشرق والمغرب، ومركزين هامين من مراكز الثقافة العربية الإسلاميةـ ساهمتا بحظ وافر في ألق الحضارة الإسلامية خصوصا بعد خفوت العلم بالأندلس..
ولما حل صاحبنا ابن البيطار بالقاهرة أيام الملك الكامل الأيوبي (615هـ، 635هـ، 1218م، 1238م). لقي عطفا بالغا من الملك الكامل وترحيبا عظيما، فقد أحله محلا كريما، وأكرم وفادته، وأسند إليه رياسة العشابين في الديار المصرية تقديرا لمواهبه العظيمة في علوم الصيدلة والنباتات والأعشاب الطبية، وهذا نموذج فريد لتحالف العلم مع السياسة خدمة للإنسان والأمة، ولا يشك أحد بأن ابن البيطار قد أفاد الإنسانية بعلمه ومنهجه، وما أحوجنا اليوم إلى احتضان أهل العلوم في بلادنا العربية والإسلامية فلا شك أن هذا الاحتضان غير المشروط سينتج علما وعملا يفيد العالم بفضل من الله..
ويبدو من استقرار ابن البيطار في مصر والشام أيام الأيوبيين ما كانت عليه هذه الرقعة الواسعة من العالم العربي الإسلامي من هدوء وانصراف إلى العمل والبناء، فقد كانت مصر والشام آنئذ الموئل والملاذ الذي يلوذ به جميع العلماء، من كل وطن عربي إسلامي، ألمت به المحن والأحداث المثيرة، ودارت به دوائر الأعداء، والسبب في ذلك ظاهر واضح، وهو أن الفاطميين والأيوبيين والمماليك قد استطاعوا إلى وقت طويل أن يجعلوا هذا الجزء من الوطن العربي الإسلامي تتوافر فيه عوامل الأمن والاستقرار، والتشييد والبناء، وإنشاء المدارس، وتشجيع العلماء، وإفساح جميع المجالات أمام كل دارس للبحث والدراسة والتحقيق، فاستطاعوا أن يقوموا في هذه الفترة بعمل خالد في تاريخ الحضارة العربية الإسلامية، وهو إحياء التراث العظيم، الذي أتلف التتر أطنانا لا تحصى من مجلداته بإغراقها في نهر دجلة لكي تكون قنطرة تعبرها جحافلهم من أحد الشطين إلى الآخر، والذي أحرق منه الإسبانيون المتعصبون أطنانا أخرى في الأندلس بعد طرد العرب منها[2].
لذلك كانت عملية جمع التراث وإحيائه من جديد من العمليات الخالدة، التي يرجع الفضل فيها للظروف التي هيأها بعض حكام مصر والشام للعلماء الذين لجئوا إلى الديار المصرية الشامية من بغداد والأندلس.
وقد اتخذت الحياة الفكرية والعقلية طابعا مميزا في عصر الأيوبيين، إذ كان ابن البيطار في هذا العصر مؤثرا من المؤثرات التي ساعدت على تجمع عدة تيارات فكرية، التقى بعضها ببعض، فتفاعلت وكونت ثقافة عربية إسلامية خصوصا في الشق المرتبط أساسا بالعلوم الطبيعية التي لم يكن المختصون فيها بعيدين كل البعد عن علوم الدين والإنسان، بل كانت موسوعيتهم دالة على إدراكهم بأن فلسفة الإسلام المعرفية تقوم على إبيستيمولوجيا كونية مفادها علاقة جدلية مباركة بين الكون والإنسان والوحي.. والحق أن مصر في عصر الأيوبيين وفي أيام الممالك قد ساهمت في الحفاظ على سلامة التراث العربي الإسلامي، الذي أساء إليه المد التتري شرقا، والغزو الإسباني غربا، ولذلك لجأ إليها كثير من العلماء من الشرق و الغرب، ولم يكن عملهم مقصورا على إحياء التراث العربي الإسلامي فحسب، بل عملوا في الوقت نفسه على استيعابه من أجل تجاوزه بالمفهوم الإبيستيمولوجي لكلمة تجاوز، وقد ظهر هذا الاتجاه واضحا في العلوم العقلية، من فلسفة وطب وطبيعيات وغيرها..
يتبع في العدد المقبل..
——————————————
1. ابن البيطار الأندلسي أعظم صيدلي في الإسلام علي الجمبلاطي، وأبو الفتوح التوانسي، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة.
2. ابن البيطار الأندلسي أعظم صيدلي في الإسلام ، مرجع سابق.
أرسل تعليق