أُخْتُ الْبَنِين السباعية.. الأديبة الباحثة
فتنها التراث العربي الأصيل، فأقبلت على دراسة الأدوات والوسائل التي تمكنها منه، فحفظت كتاب الله تعالى، ودرست النحو والصرف والفقه والعقيدة والأدب المنثور والشعر العربي والحساني
فكانت متذوقة لهذا الزخم المعرفي بنهم، خاصة وأنها نشأت في جو ثقافي علمي، في بيت اشتهر بالعلم والمعرفة والأخلاق والقيم الحميدة كابرا عن كابر
ولدت أخت البنين بنت محمد الأمين بن ابَّاهَا السباعية أوائل الأربعينات بـ (الـﮕـعيده)، وهي منهل يقع بولاية “إنشيري” شمالي موريتانيا. تربت في حجر أبوين شريفين؛ والدها محمد الأمين بن أباه، ووالدتها السيدة سكينة بنت أحمد سالم بن لَحْرَيْطَانِي، اللذين فطنا لذكاء ابنتهما فساعداها منذ الصبا لبلوغ مرامها..
كانت مترجمتنا مفكرة باحثة تطالع الكتب، مولعة بالنكث والقصص ولعا منقطع النظير، كما يشير إلى ذلك فضيلة القاضي دب سالم محمد محمود بن حبيب الله في مقدمة كتابها “قَيْدُ الأَوَابِدِ في الأمثال الحَسَّانية ذات الفوائد“، ويضيف في نفس السياق بأن كتابها المشار إليه آنفا[1]، أدل تعبير عن سعة مشاربها الثقافية العربية. تقول أخت البنين في تقديمها لكتابها: “لا يخفى على أصحاب الثقافة العامة، والمتعاطين للأدب، خاصة أن الأمثال عصارة التجارب..”، وتضيف: “ومن هُنا تُعلم أهمية هذا المُؤلف الذي مهدت به الطريق لمن يريد التوسع في دراسة الأمثال دراسة ميثولوجية من وجهة دلالتها الحضارية.. ولذلك شرعت في هذا العمل معترفة بالتقصير..“[2].
وكان مرمى أخت البنين بجمع ما يزيد عن 1039 مثَلا لفت نظر الناشئة إلى القيم الأخلاقية والتوجيهية والثقافية والأدبية لهذا النوع من التعبير المركز الأصيل، وإبراز ما فيه من التنقل من الهزل على الجد، ومن الأسطورة إلى الحقيقة، ومن الحقيقة إلى المجاز..
كما لم يفت الباحثة عن التراث أن تقوم بشرح هذه الأمثال التي جمعتها شرحا موجزا، والاستشهاد بنظائر من الشعر الحساني والعربي الفصيح، ورتبته ترتيبا معجميا تسهيلا لتناوله من قِبل القراء..
يقول القاضي أحمد الواثق بن جدو عن كتابها: “فإني لما نظرت تأليف فريدة عصرها، وخنساء دهرها، أخت البنين بنت أباه، فإذا هو من نفائس الأعلاق، ومن أحسن ما صرفت له همم الحذاق، يزين معانيه ألفاظه، وألفاظه زائنات المعاني..” إلى أن يقول: “فأن الاسم منه طابق المسمى، وقد كنت فلت بيتين تقريظا له من البحر الطويل..
لقد كشف اللبس الشديد عن الحـجا بـــإبرازك الـدر المنظـــــم في العــقد
وقرب للـذهن البــــعيد من المـــــدى فيـــــا لك مـــن در ويـا لك مـــن عقد
فلم أملك نفسي من حسنة عندي حتى قرضته ثانيا بثلاثة أبيات من بحر الكامل وهي:
قيـــــد الأوابد قيــــد الأمثـــال وله إلهـــــي قلـــل الأمثـــــال
جادت به أفكار خنساء دهرهـا أدبـا فــــحاز بــــراعة وكــــمالا
قلـــنا بــــدون تحــــفظ لما بدا قيــد الأوابــــد قيــــد الأمثالا”[3]
وفي سياق آخر يقول عنها الكاتب والناقد عبد الوهاب: “عرفت المؤلفة التي أتحدث عنها في هذه المعالجة فتاة لا تغادر خذرها إلا نادرا وفي حياء وتحفظ، ولم تكن لها أية علاقة بأي مدرسة عصرية، ومن باب أولي ألا تعرف ردهات الجامعة وقاعاتها، فمتى تعلمت؟؟ ومتى طمحت لدخول معركة التأليف؟ إنه الذكاء الخارق والعبقرية اللامعة وعمق البحث وتنوع مشارب الثقافة“[4].
عرفت هذه المرأة بحسن السلوك مع الحق وحسن الأخلاق مع الخلق، وذلك سيرا على خطى ونهج أجدادها آل السباع الأدارسة.. وكانت متواضعة جدا؛ لأن صفات العلو والرفعة لا تنال إلا بالتواضع.. وإيمانا منها بأن حضارة الشعوب لا تبنى إلا بالعمل الدؤوب، فقد قامت بجمع ما يربو عن ألف مثل شعبي قيدته في كتابها “قيد الأوابد في الأمثال الحسَّنية ذات الفوائد“.. ويُظهر هذا الكتاب سعة مشاربها الثقافية والأدبية والمعرفية المتنوعة. يقول الأستاذ الشبيه بن العلامة الشبيه بن أبُّوه ما لفظه في شأنها:
وإن ذكــرت مـــن رجالها الأرب فإن فيــها من نسـائها العجـب
منهن مـــن فازت على النساء بالدين والجــــمـال والســـخـاء
أخــــت البنيـن ولهـــا الوفــــاء كمـــــا فـــــي الحسـب الثنـاء
حـــازت مــــن المكارم الجميلا واتبعت فـــي المنهج الرسـولا
فحاتم لــــو كـــان فـي زمانهـا لم يذكر الفعل لــه من شأنهـا
فقد أتـــت مـــن أمهـا بالكــرم ومن أبيها من إلى النبي نمي
بدءا به فهـــــو محـمـد الأميـن قطب الســخاء والبرور واليقين
يقول القاضي دبَّ سالم بن محمد محمود بن حبيب الله:
حــــــوى قيـــــــد الأوابد ســلسبيلا ولـــــم نر في البـــلاد لـــــه مثيلا
لقد نســـجته للنــــحــــبا فـــتــــــاة من الشــرفا ولــــــم تتـــرك فــتيلا
فبنـــــت أباه فـــــي الميـــدان فاقت كمـــــا برعــت وأبرزت الجـــميلا
يا أخــــت البنــــيــــن جـــزيت خيرا لنا قـــدمت إنــــجـــازا جـــــليلا
نسجـــــت لنــــــا بخـــيـط من حرير كتــــابا متقـــــــنا حـــســـــنا جزيلا
حــوى حكــما تفـــوق الراح طعما أبــــان الفــــخــر والمــــجد الأصــيل
ففي أمثــال مـــــــن سبقـــوا علوم وأخـــــلاق تنــــــير لنــــا الــــــسبيلا
لقـــــــد ربــــاك أبـــــــــاء عــــــظام شفــــيت لنــــا بمحــــــبتك الغــليلا
ولم يفت الشاعر محمد الحافظ بن أحمدو بن الشيخ أحمد أن يعبر عن رأيه في كتاب أخت البنين:
هذه كنوز يــــواقيــت النهى الغــرر شققت أصـــدافها العصما عن الدرر
أغلى ضنائن أعــلاق عـــــثرت على إكسيرها من إزار الشمس في طرر
أخرجت للناس مــــن أحشاء أبحرها أغلى الجواهر مـــــن آيـــــاتها الغرر
قيــــــــد الأوابد مــــن آرام معــــلقة مثــــــل العرائس في استبرق الحبر
يشفـــــي به عضـــــال الداء كل دو ويطــــــــرف العــــقل بالأمثال والدرر
عصرت مــن كل كرمة الأمثال عاتقة من خمــــر بابل في كأس من الزهر
أنت البنـــــين بنيت القصر من ذهب بيــــــن الخمــــائل والجـــنات والنهر
أما الأديبة الولية بنت المختار الحسن فتقول عن هذا التأليف: “وبعد فقد قرأت كتاب قيد الأوابد عندما قدمته لي المؤلفة الشريفة البنين بنت محمد الأمين بن أبَّاه، وكنت كلما قرأت بابا منه ازددت ولعا وتعطشا بما جادت به من أمثال وشواهد خلابة من لهجتنا الحسانية التي لولاها لكان طعم الحياة كطعم الرماد…” وتستمر بنت المختار منوهة بأديبتنا تقول: “.. ولا يسعني إلا أن أنوه بما قامت به الأديبة من مجهود بديع لم تُسبق إليه، ولا غرابة فالمثل يقول: “لكل مضمون وعاؤه”، وعندما وجدت ضالتي جادت قريحتي بالأبيات التالية..
أهـــاج اشتياقي يا بنـت الباه عندما تصفحــــت في قيد الأوابد ما احتوى
فلــــله در مـــا جمعـــــت بــــمننـــه ولله ما فعــــلت مـــــــمن انــــــزوى
فرفقا بنفس فــــــي أحشاء ضعيفة ورفقا بشــــــيخ بعدما تــاب وارعوى
إن هذا المجهود الجامع بين المثل والشاهد الحساني لم أسمع به من قبل، وأرجو من الله العلي القدير أن يجازي الكاتبة بخير منا وعن تراثنا، ويرحم الله من دعا لي ولها بسعادة الدارين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين..”[5].
توفيت الأديبة الألمعية أخت البنين بنت محمد الأمين بن ابَّاه رحمها الله بالعاصمة الموريتانية نواكشوط يوم الجمعة 11 يوليو 2001م موافق لـ 04 جمادى الأولى 1427هـ.
————————————————————-
1. قَيْدُ الأَوَابِدِ، في الأمثال الحَسَّانية ذات الفوائد، أخت البنين بنت محمد الأمين بن ابَّاهَا السباعية، مطبعة الأطلس، نواكشوط، بدون تاريخ، ص: 1.
2. قيد الأوابد، ص: 3.
3. قيد الأوابد، ص: 184.
4. نفسه، ص: 185.
5. نفسه، ص: 187.
أرسل تعليق