أول محتسب في الإسلام
يرجع تاريخ لفظ المحتسب كموظف إلى قيام الدولة الإسلامية وتنظيم الإدارة، وقد تولاها الخلفاء الراشدون بأنفسهم أو أنابوا عنهم من يقوم للتيقن من تطبيق شريعة السماء، كما أن أفراد الحسبة بموظف مختص يسمى “المحتسب” لم يعرف إلا في منتصف القرن الثاني الهجري الموافق للقرن الثامن الميلادي، على عهد الخليفة المهدي العباسي 158-169هـ، وكان السبب في ذلك اتساع رقعة الإسلام، وتعدد أمصاره باطراد الفتوح وما نجم عنها من التفاعل الحضاري والازدهار العمراني والتجاري، وظهور الغش اليهودي في المبادلات والمعاملات اليومية، كترويج النقود الزائفة من الذميين الماهرين في الصياغة وضروب الحيل والتدليس حسبما هو مفصل ببحث مستفيض منشور في مجلة “الرسالة المصرية” بالعددين 335-336 تلك الموسوعة القيمة التي كان يديرها الأديب احمد حسن الزيات، كما ألمعنا فيما مضى إلى ما كاد يجمع عليه المؤرخون- ومنهم الدكتور حسن إبراهيم- على أن اول محتسب في الإسلام هو الخليفة الثاني عمر ابن الخطاب، وقد شوهد يوما وهو يضرب جمالا قائلا “لقد حملت جملك ما لا يطيق” وتعقيبا على هذه الأولية نبادر للقول إنها أولية نسبية لاحقيقة؛ إذا المعروف في كتب السنة أن أول محتسب هو أبو بكر الصديق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد مبعثه، والجهر بدعوته بمرأى منه ومسمع، ففي صحيح البخاري عن عروة رضي الله عنه قال قلت لعبد الله ابن عمر ما اكتر ما رأيت قريشا نالت من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما كانت تظهر من عداوته، فقال حضرتهم، وقد اجتمع أشرافهم يوما بالحجر، فذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا ما رأينا مثل ما صبرنا عليه من هذا الرجل، سفه أحلامنا، وشتم آباءنا، وعاب ديننا، وفرق جماعتنا، وسب ألهتنا، ولقد صبرنا على أمر عظيم- أو كما قتلوا: فبينما هم في ذلك إذ طلع عليهم رسول الله عليه وسلم فاقبل يمشي حتى اسلم الركن ثم مر بهم طائفا بالبيت فلما مر بهم غمزوه ببعض القول قال فعرفت ذلك في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم مضى فلما مر الثانية غمزوه بمثلها فعرفت في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم مضى فمر بهم الثالثة فغمزوه بمثلها حتى وقف ثم قال أتسمعون يا معشر قريش أما والذي نفس محمد بيده لقد جئتكم بالذبح قال فاطرق القوم حتى ما منهم رجل إلا كأنما على رأسه طائر واقع حتى اناشدهم فيه وطأة كان يقول انصرف يا أبا القاسم راشدا قال انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان من الغد اجتمعوا في الحجر وانأ معهم فقال بعضهم لبعض ذكرتم ما بلغ وما بلغكم عنه حتى إذا بادأكم بما تكرهون تركتموه، فبينما هم في ذلك إذ طلع رسول الله صلى الله عليه وسلم فوثبوا عليه وثبة رجل واحد فأحاطوا به يقولون: “أنت الذي تقول كذا، أنت الذي تقول كذا لما كان قد بلغهم من عيب ألهتهم ودينهم، قال فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم نعم أنا الذي أقول ذلك، قال فلقد رأيت رجلا منهم أخد بجامع رداءه، قال و قام أبو بكر رضي الله عنه دونه يقول وهو يبكي، ويلكم أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله ثم انصرفوا”.
فهذا النص التاريخي الموثق بالسند الصحيح لوروده في الصحيح إلا يدل على سبق عمر بابي بكر في القيام بالحسبة والنهي عن المنكر وتغييره بلسانه وبيده حيث أفتكه ممن لببه وانتهرهم بصرخته ويلكم أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله؟
فان قيل جوابا عن المؤخرين أن ابا بكر لم يكن مولى ووقتئذ، قلنا تعم ثبت نهيه عن المنكر وتغييره وهو مولى مسؤول أيام خلافته مما يوحي بأوليته وسبقه عمر في حسبته كما ثبت في كتب السنة وهي أغنى وأوثق المصادر التاريخية..
عن كتاب نظام الحسبة في الإسلام سلسلة البدائع للأستاذ العلامة المرحوم أحمد بن شقرون الطبعة الأولى 1415-1995.
أرسل تعليق