أنموذج قرآني للنساء
قال الله تقدست أسماؤه: “إِنَّ اللَّهَ اَصْطَفَى ءَادَمَ وَنُوحًا وَءَالَ إِبْرَاهِيمَ وَءَالَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ اِذْ قَالَتِ اِمْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالاُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ” [اَل عمران، 33-37].
فهذا نموذج من أعظم وأروع النماذج التي قدّمها القرآن المجيد مثلا للنساء إلى يوم الدين؛ إنها مريم ابنة عمران المرأة الوحيدة التي ذكرت بالاسم على سبيل التعيين في كتاب الله العزيز، وسميت سورة كريمة باسمها وهي سورة مريم، وتكرّر ذكر اسمها في القرآن اثنتين وثلاثين مرة تشريفا وتبجيلا وتكريما.
بداية القصة أن امرأة عمران أم مريم عليهما السلام كانت تتطلع بشوق إلى أن يمنّ الله تبارك وتعالى عليها بولد، وهلك زوجها عمران وهي حامل، فلما تحققت حملها قالت “ربّإِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا” نذرت أن تجعل ما في بطنها عبدا خالصا لوجه الله، والمحرر هو الخالص المفرغ للعبادة، وخدمة المسجد في بيت المقدس؛ إذ كانوا يتقربون إلى الله في شريعتهم بذلك “فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالاُنْثَى” كأنها تعتذر إلى ربها وهو بكل شيء عليم، وليس الذكر كالأنثى في خدمة المسجد والقيام بأموره.
ثم إنها وصلت نيتها الأولى وأحسنت الظن بربها فقالت “وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ” أي العابدة؛ ومقصودها من هذا الإخبار بالتسمية التقرب إلى الله فإن معنى مريم خادمة الرب بلغتهم “وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ” وفي الحديث الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “ما من بني آدم من مولود إلا نخسه الشيطان حين يولد فيستهل صارخا من نخسه إياه إلا مريم وابنها“.
“فتقبلها ربها بقبول حسن” أي تقبل نيتها ونذرها بأعلى درجات القبول، وسلك بها مسلك المقبولين، وأنبتها نباتا حسنا، وكفلها نبي من أنبياء الله، وجعلها معه في محرابه، وكانت عنده، وحضنها فنشأت طاهرة ناسكة في بيت نبوة وعبادة وطهر، وهذا كله علامة القبول. ومن ثم، هيأها الله لأمور عظام، وشرفها بخطاب الملائكة “وَإِذْ قَالَتْ الْمَلَائِكَة يَا مَرْيَم إِنَّ اللَّه اَصْطَفَاك وَطَهَّرَك وَاصْطَفَاك عَلَى نِسَاء الْعَالَمِينَ يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ” [آل عمران، 42-43]. قال ابن كثير: “هذا إخبار من الله تعالى بما خاطبت به الملائكة مريم، عليها السلام، عن أمر الله لهم بذلك أن الله قد اصطفاها، أي: اختارها لكثرة عبادتها وزهادتها وشرفها وطهرها من الأكدار والوساوس واصطفاها ثانيا مرة بعد مرة لجلالتها على نساء العالمين”. ثم أورد نقولا عن جلة المفسرين في الباب كقول مجاهد” كانت مريم عليها السلام تقوم حتى تتورم كعباها، وقول الأوزاعي: “لما خاطبت الملائكة مريم قامت حتى تورمت قدماها، وركدت في محرابها راكعة وساجدة وقائمة، حتى نزل الماء الأصفر في قدميها رضي الله عنها”.. وكفاها فخرا وجلالا وشرفا أنها محل الخطاب الإلهي: “وَاصْطَفَاك عَلَى نِسَاء الْعَالَمِينَ” [اَل عمران، 42] فهي سيدة نساء العالمين؛ ارتقت مدارج الكمال في خلقها، ودينها، وطهرها، وشرفها.. وهذه الشهادة المنيفة المميزة تعضدها شهادة سيد المرسلين سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم الذي رفع شأنها وخلد ذكرها بقوله “خير نسائها مريم بنت عمران، وخير نسائها خديجة بنت خويلد“.
وعن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “حسبك من نساء العالمين مريم بنت عمران، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد، وآسية امرأة فرعون“.
وكذلكم حلاها الباري تبارك وتعالى في القرآن بالصديقة حين قال: “اَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّـهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّـهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَاكُلَانِ الطَّعَامَ اَنظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الاَيَاتِ ثُمَّ اَنظُرْ اَنَّى يُوفَكُونَ” [المائدة، 76- 77].
والصِّديقة هي المؤمنة به والمؤمنة له، والصّديقيّة مرتبة سامية من المراتب والمقامات العلية تأتي بعد مرتبة الأنبياء وأعلى من مرتبة الشهداء، ولذلكم كان لها من الكرامات الهائلة ما بهر زكرياء عليه السلام “كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا“… ومن كراماتها ومعجزاتها أنها العذراء الوحيدة من بين النساء التي حملت وولدت بلا زوج؛ فجعلها الله وابنها آية للعالمين، ومعجزة باقية، وحكمة بالغة دالة على عظيم قدرته وكمال صفاته… نفعنا الله بسيرتها العطرة وأنفاسها الزكيات الطيبات، والصلاة والسلام على حبيبنا ونبينا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين، والحمد لله رب العالمين.
أرسل تعليق