أم لم يعرفوا رسولهم…
قال الله تقدست أسماؤه: “قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ” [المائدة، 17-18].
الأنوار التي انفلقت منه صلى الله عليه وسلم وأشرقت بها الأرض هي أنوار الهداية والإيمان، وأنوار المعرفة والإيقان، وما بيّنه من الأحكام التي وعاها القرآن “أَفَمَن شَرَحَ ٱللَّهُ صَدْرَهُ لِلاِسْلاَمِ فَهُوَ عَلَىٰ نُورٍ مِّن رَّبِّهِ” [الزمر، 21].
فالنبي صلى الله عليه وسلم هو السراج المنير الذي بنوره استضاءت قلوب المؤمنين، وهو نور الله الذي عجزت عن إطفائه أفواه الجاحدين “يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ” [الصف، 8] فالنّور في هذه الآية كما ذكر بعض المفسرين إما نور الله أو كتاب الله أو رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأن بواسطته اهتدى الخلق أو هو النور باعتباره مبينا للناس ما نزل إليهم، والمبيّن هو النور…
فهو الّذي تمّ معناه وصـــــورته ثمّ اصطفاه حبيباً بارئ النّسم
وما ذاك إلا لأن حقيقة النور وحقيقة الحسن الكامل كائنة فيه، وقد جاءت الآيات والآثار بوصف نور جماله الظاهر، ونور كماله المعنوي الباهر كما في آخر حديث على رضي الله عنه “… من رآه بديهة هابه، ومن خالطه معرفة أحبه..” وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه: “مَا رَأَيْتُ شَيْئًا أَحْسَنَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَأَنَّ الشَّمْسَ تَجْرِي فِي وَجْهِهِ“.
وأما كماله المعنوي الأخلاقي فحسبكم أن العظيم جلّ شأنه أثنى عليه بقوله “وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ” [القلم، 4]، وما بعد هذا الثناء من ثناء كما قال القائل:
أيَرومُ مخْلوقٌ ثَناءَكَ بعْدَمـا أثْنَى علَى أخْلاقِكَ الخلاّقُ
قال سعيد بن هشام قلت لعائشة أخبريني عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: “أَلَستَ تَقرَأُ القُرآنَ؟ قُلتُ: بَلَى. قَالَت: فَإِنَّ خُلُقَ نَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ كَانَ القُرآنَ” وأخلاقه صلى الله عليه وسلم كثيرة تجل عن الحصر، ولكن نقتصر هنا على ذكر أصولها وكمالها فيه عليه الصلاة والسلام، وأساس شعبها ونقطة دائرتها العقل الذي منه ينبعث العلم ويتفرع عنه صواب الرأي، وجودة الفطنة، والنظر للعواقب، وحسن التدبير، ومجاهدة الشهوة، واقتناء الفضائل، واجتناب الرذائل… ولهذا كان صلى الله عليه وسلم أحلم الناس وأصبرهم وأجودهم وأشدهم حياء وإغضاء، وأحسنهم عشرة، وأوسعهم صدرا، وأعظمهم شفقة ورحمة، وأوفاهم عهدا، وأوصلهم رحما، وأشدهم تواضعا، وأعدلهم حكما، وأزهدهم في الدنيا، وأخوفهم من ربه، وأشدهم له عبادة إلى غير ذلك من سجاياه الكريمة وخصال الكمال العديدة..
وكيفَ يُدْرِكُ في الدُّنْيَا حَقِيقَتَهُ قومٌ نيامٌ تسلَّوا عنــــهُ بالحُلُمِ
أجل؛ لقد كلت الفهوم عندما طلبت الاستشراف والاطلاع على لطيف سره، وحقيقة كماله، وما أدرك الناس من حقيقته أمره عليه الصلاة والسلام إلا على قدر عقولهم؛ ثم الناس في اطلاعهم على سر نبوته وخصوصية رسالته بحسب مقاماتهم ومنازلهم منه، فكل أحد كشف له من ذلك بحسب مقامه وعلى قدر قرب روحه من روحه صلى الله عليه وسلم…
وأعظم الناس فتحا في ذلك، وأكثرهم حظوة وعطاء سيدنا أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه، ولهذا كان أشد الناس قربا منه، وأعظمهم صحبة، وكان أول المؤمنين بنبوته، والمصدقين لرسالته من غير طلب دليل ولم يعتره توقف ولا تأويل…
ولذلكم كان من ورد العارف الراسخ سيدي عبد السلام بن مشيش رضي الله عنه قوله “اللهم إنه سرك الجامع الدال عليك، وحجابك الأعظم القائم لك بين يديك، وعرفني إياه معرفة أسلم بها من موارد الجهل، وأكرع بها من موارد الفضل“. فالنبي صلى الله عليه وسلم هو الجامع بين كمال المعرفة وحسن السيرة؛ الجامع بين الجمال والجلال، ثم هو المتمكن القائم مقام الدلالة على الله تعالى. فهو الدليل الأعظم بعثه الله دليلا يدل عليه ويعرف الطريق إليه، في زمان فترة عمت فيها الضلالة، وكثرت فيه الجهالة، أكثر الخلق فيه عن الله معرضون، وعن بابه حائدون، فدلهم على الله تعالى، وعرفهم الطريق إليه، وردهم إلى بابه الكريم بأقواله وأفعاله وأحواله، وأيقظ الأرواح إلى ملاحظة جلاله وجماله، ومن ثم ألح العارف في الدعاء بقوله: “اللهم عرفني إياه معرفة أسلم بها من موارد الجهل” والجهل هنا على ثلاثة أضرب:
الأول: خلو النفس من العلم أصلا؛
والثاني: اعتقاد الشيء بخلاف ما هو عليه؛
والثالث: فعل الشيء بخلاف ما حقه أن يفعل..
والمقصود من هذا الدعاء الصّالح أن صاحبه -وهو من هو- يسأل الله تعالى أن يُعرفه بقدر المصطفى صلى الله عليه وسلم معرفة خاصة تثمر له ثمرة طيبة؛ لا مطلق المعرفة التي يشترك فيها عامة الناس من معرفة نسبه وبيته وصدقه وأمانته، وكونه عاش في القرن السابع الميلادي، وكونه هاجر إلى المدينة…إلخ. فإن هذا القدر يشاركنا فيه كل من هب ودب والخاص والعام حتى المشركون إذ كانوا يعرفونه كما يعرفون أبناءهم ولهذا خاطبهم القرآن الكريم على سبيل الاستفهام الإنكاري للتوبيخ “أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ” [المومنون، 70] أي ألم يعرفوا أصله ونسبه وأمانته وصدقه ومكارم خلقه…
ومن ثمرات المعرفة الخاصة به صلى الله عليه وسلم الشفاء من علّة الجهل بمكانته، والتضلع من رحيق محبته التي ينشأ عنها الاقتداء به في أقواله وأفعاله والتأدب بآدابه، والتعلق بأذياله..
ومن ذلك الشفاء من علة الجهل بالله تبارك وتعالىن فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعرف الناس بربه وأخشاهم له، ومن هذه المعرفة تتولد كثير من الصفات والخلال التي يمدحها الكتاب كالخشية والسكينة والإخبات والولاية والقرب والمحبة التي هي مقصد العارفين وملجأ ومنجى الواصلين…
ومن الثمرات: لزوم طريق الأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم كما كان حال عمرو بن العاص حين قال عن نفسه: “ما كان أحد أحبّ إليّ من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أجلّ في عيني منه، وما كنتُ أطيق أن أملأ عينيّ منه إجلالاً له، ولو سئلت أن أصفه ما أطقت؛ لأني لم أكن أملأ عينيّ منه”.…
أرسل تعليق