أم الكرام المروزية ونسختها من صحيح البخاري
- ذة. رقية أيت الدوش
- عضو المجلس الأكاديمي للرابطة
أهمية صحيح البخاري لا تكمن فقط في كونه يشكل مرجع الأمة وعمدتها –إلى جانب صحيح مسلم- فيما صح من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل تنضاف إليها كونهما أصّلا للمذهب السني، واستدلا له بما صح في قضايا الأمة الأربع الأساسية: العقائد، والعبادات، والمعاملات، والسلوك.
لذلك كانا مدار حركة الرواية والدراية، توثيقا وتحقيقا، وشرحا واستنباطا..، وشارك الرجال والنساء في نقلهما وروايتهما والتهمم بهما، قال القاضي عياض رحمه الله عن هذين الأصلين إضافة إلى موطأ مالك رحمه الله: “هي أصول كل أصل..، وحول وعليها مدار أندية السماع، وبها عمارتها، وهي مبادئ علوم الآثار وغايتها..، وأحق ما صرفت إليه العناية وشغلت به الهمة”.[1]
وقد روى صحيح البخاري الجم الغفير؛ فعن أبي إسحاق المستملي عن أبي عبد الله الفربري قال: “روى الصحيح عن أبي عبد الله تسعون ألف رجل ما بقي منهم أحد غيري”.[2]
وتعد رواية الفربري من أشهر الروايات، ولها طرق كثيرة منها:
– طريق أبي علي سعيد بن عثمان بن السكن؛
– طريق أبي زيد المروزي؛
– طريق أحمد الجرجاني؛
– طريق أبي إسحاق المستملي وابن حمويه، وعنهما أبو ذر الهروي؛
– طريق أبي الهيثم الكشميهني..
وعن أبي الهيثم روت كريمة المروزية صحيح البخاري. وكريمة هذه هي الشيخة العالمة الفاضلة المسندة أم الكرام؛ بنت أحمد بن محمد بن حاتم المروزية نسبة إلى مرو الشاهجان، وهي مرو الكبرى أشهر مدن خراسان، جاورت بحرم الله، من محدثات القرى الخامس الهجري (تـ 463هـ).
سمعت من أبي الهيثم الكشميهني صحيح البخاري، وسمعت من زاهر بن أحمد السرخسي، وعبد الله بن يوسف الأصبهاني، وحدثت كثيرا، وروى عنها الجلة.
قال ابن نقطة: “كانت عالمة تضبط كتابها فيما بلغنا”[3]، وقال الحافظ الذهبي: “كانت إذا روت قابلت بأصلها، ولها فهم ومعرفة مع الخير والتعبد، روت الصحيح مرات كثيرة، مرة بقراءة أبي بكر الخطيب في أيام الموسم”[4].
وقال في ترجمة الخطيب: “وقرأ الصحيح في خمسة أيام على كريمة المروزية..”[5]، وقال الحافظ أبو الفضل بن ناصر رحمه الله: قرأ عليها الخطيب جامع البخاري في ستة أيام (كذا قال)، وقرأ عليها أبو طالب الزينبي جميع الكتاب سنة ثمان وخمسين وأربعمائة، وكان مجاورا هناك للعمارة، وجماعة من شيوخنا مثل أبي الغنائم النرسي الكوفي وقال: ما رأيت امرأة عجوزا تضبط بالنظر في كتابها، وترد على من يقرأ عليها مثلها.[6]
قلت والزينبي المذكور هو القاضي الإمام رئيس الحنفية أبو طالب الحسين بن علي بن حسن، حج فسمع الصحيح من كريمة في التاريخ المذكور، وزاد الذهبي أنه: “تفرد به عنها، وقصده الناس”.[7]
أما أبو الغنائم النرسي -وهو أحد من تحدث عنها- فقد فصل كيفية الأخذ عنها، فقال: “أخرجت كريمة إلي النسخة بالصحيح، فقعدت بحذائها، وكتبت سبع أوراق، وقرأتها، وكنت أريد أن أعارض وحدي، فقالت: لا حتى تعارض معي، فعارضت معها. قال: وقرأت عليها من حديث زاهر”.[8]
فهذه الأقوال كلها تدلنا على مدى عناية كريمة –رحمها الله- بنسختها من صحيح البخاري ضبطا وتدقيقا، مقابلة ومعارضة وتصحيحا، إقراءا ورواية، وكل هذا تطبيق منها للمنهج العلمي الدقيق الذي ينبغي أن تكون عليه الرواية الصحيحة كما هو مؤصل لها في قواعد وأصول علم الحديث.
ولعل هذا الالتزام العلمي والمنهجي الذي أحاطت به روايتها، هو الذي جعل طلاب الرواية يرحلون إليها، بل إن محدث هراة أبا ذر الهروي- رحمه الله- قد وصى طلبته أن لا يأخذوا صحيح البخاري إلا عنها.
وإلى جانب هذا السبب هناك أسباب أخرى يسرت الاستفادة من روايتها لعل أهمها اختيارها مكة المكرمة للإقامة حيث جاورت بها إلى أن توفيت رحمها الله، وهو ما يفسر كون أغلب الذين أخذوا عنها من رواة الآفاق التقوا بها بمكة، وخاصة في موسم الحج، الذي شكل عبر التاريخ مركزا روحيا وعلميا للأمة الإسلامية، وملتقى عالميا لمشايخها وعلماءها وعبادها وطلبتها..
يضاف إلى ذلك توثيق العلماء لها وثناؤهم عليها واعترافهم بشدة تحريها وضبطها لروايتها، وقد تقدم بعض ذلك، ونضيف هنا قول أبي بكر بن منصور السمعاني: سمعت الوالد يذكر كريمة، ويقول: وهل رأى إنسان مثل كريمة؟[9].
رواية كريمة المروزية بالغرب الإسلامي
اهتم علماء الغرب الإسلامي –على غرار إخوانهم المشارقة- برواية صحيح البخاري من طريق كريمة المروزية؛ فمنهم من شد الرحال للسماع منها والقراءة عليها بالحرم الشريف، ومنهم من أجازته وكاتبته بروايتها، ومنهم من روى عمن روى عنها. كما تفيده كتب التراجم والفهارس والمشيخات وتفيده كذلك أسانيد المغاربة ..
ومن هؤلاء الأعلام، نذكر:
– الحافظ المتقن، شيخ المحدثين أبو عبد الله محمد بن أبي نصر الحميدي الأندلسي الميورقي (تـ 488هـ)، قال الذهبي: “سمع بمكة من المحدثة كريمة المروزية”[10]؛
– الإمام الحافظ الناقد محدث الأندلس أبو علي الحسين بن محمد بن أحمد الغساني الجياني (488هـ) قال: كتبت إلي كريمة بنت محمد المروزية تحدثني به –أي بالصحيح– عن أبي الهيثم[11]؛
– الشيخ الواعظ أبو العباس أحمد بن عبد الرحمن الأنصاري الشارقي (تـ قريبا من 500هـ) “.. له رحلة حج فيها وسمع من كريمة كتاب البخاري”[12]؛
– زعيم المقرئين بقرطبة الخطيب المقرئ أبو القاسم خلف بن سعيد يعرف بابن النحاس وبابن الحصار أيضا (ت 511هـ)، “رحل إلى المشرق فحج وسمع بمصر ومكة أبا عبد الله ابن عبد الولي، وكريمة بنت أحمد ..”[13]؛
قال ابن عطية: لقيته –رحمه الله– بقرطبة وأجاز لي جميع روايته، فمن ذلك: الجامع الصحيح..، قال لي بلفظه: إن كريمة بنت أحمد بن محمد بن حاتم المروزية أخبرته به..”[14]؛
– الشيخ الجليل الفقيه أبو العباس أحمد بن عثمان بن مكحول(تـ 510)، قال عنه القاضي عياض “.. له رحلة قديمة سنة إحدى وخمسين وأربعمائة، ورواية واسعة عن المكيين والمصريين وغيرهم أبي محمد بن الوليد.. وكريمة بنت أحمد..”[15]، وذكره ابن عطية كذلك في فهرسته فقال: “.. كتب إلي بخطه يخبرني بجميع روايته، وفي جملتها: الجامع الصحيح لأبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري، عن الحرة الزاهدة كريمة بنت محمد بن حاتم المروزية، عن أبي الهيثم محمد بن المكي بن زارع الكشميهني، عن الفربري، عن البخاري”[16]؛
– الفقيه أبو بكر غالب بن عبد الرحمن، والد الإمام القاضي أبي محمد عبد الحق بن عطية (تـ 518هـ)، ذكره ابنه في فهرسته فقال: “وقرأت عليه – رحمه الله – كتاب الجامع الصحيح..، وأخبرني أنه قرأه بمكة –شرفها الله- في المسجد الحرام عند باب بني شيبة سنة سبعين وأربعمائة على الإمام الزكي العدل أبي عبد الله الحسين بن علي بن الحسين الطبري..، قال حدثتنا الحرة الزاهدة كريمة بنت أحمد..، قال الفقيه القاضي أبو محمد:.. قال لي أبي.. وكانت قراءتي في أصل كريمة بعينه”[17]، قلت: فاتصلت بذلك رواية كريمة لابن عطية من طرق مشايخه الثلاث: المقرئ أبو القاسم خلف بن ابراهيم، والفقيه أبو العباس أحمد بن عثمان بن مكحول، ووالده الفقيه أبو بكر غالب بن عبد الرحمن؛
– الشيخ أبو الإصبغ عيسى بن عبد الله بن عيسى بن مؤمل الزهري (تـ 530هـ)، قال عياض: “لقيته بسبتة مرات اجتاز علينا بها تاجرا، وله سماع قديم من كريمة بنت أحمد لكتاب البخاري”[18].
ولا نخلي هذا المبحث من ذكر عالم المغرب ومفخرته، الإمام الفقيه المحدث دفين مراكش القاضي عياض ابن موسى اليحصبي (تـ 544هـ)، فقد ذكر في كتابه “المشارق” أنه يروي صحيح البخاري رواية الفربري من طرق كثيرة منها طريق كريمة المروزية، قال: “وأمـا رواية كريمة فحدثني بها الشيخ أبو الاصبغ عيسى بن أبي البحر الزهري، والخطيب خلف بن إبراهيم المقرئ، والشيخ أحمد خليفة بن منصور الخزاعي إجازة، وغير واحد كلهم عن كريمة بنت محمد سماعا عن أبي الهيثم الكشميهني عن الفربري.” وسنده هذا مذكور في الغنية كذلك.[19]
وعند ترجمته لشيخه أحمد بن خليفة الخزاعي قال: “كتب إلي من مكة يجيزني كتاب البخاري عن كريمة سماعه منها بسندها المعلوم”.[20]
وساق كل من التجيبي(تـ 730هـ) في برنامجه، ومحمد بن سليمان الروداني(تـ 1094هـ) في صلته، أسانيدهما المتصلة إلى رواية كريمة[21] مما يؤكد على امتداد العناية بها زمانا ومكـانا.
ولا شك أن علماءنا قد أفادوا من هذه الرواية في تصانيفهم، وبخاصة علماء الضبط والتصحيح، الذين عنوا بتصحيح رواية البخاري وضبطها، باعتماد منهج جمع الروايات المختلفة، والمقابلة بين جميعها، وعرض بعضها على بعض، لبيان الخلل وتصحيحه، وكشف الوهم ورفعه، وتتميم النقص واستدراكه .. إلى غير ذلك من الجوانب الخادمة للسند والمتن.
ومن هذه الكتب الضابطة والمًصححة التي اعتمدت في بنائها المنهجي والنقدي على مسلك المقابلة بين الروايات كتاب “تقييد المهمل وتمييز المشكل” لأبي علي الغساني، وكتاب “مشارق الأنوار على صحاح الآثار” للقاضي عياض، وكتاب “فتح الباري” للحافظ ابن حجر العسقلاني، وغيرهم نفعنا الله بعلمهم.
——————————–
1. مقدمة المشارق: 1/5.
2. مقدمة مشارق الأنوار:1/9.
3. التقييد، 1/499، ترجمة: 683.
4. سير أعلام النبلاء: 18/233، ترجمة: 110.
5. نفسه: 18/273.
6. الإكمال لابن ماكولا: 7/171 (هامش المحقق1).
7. السير للذهبي: 19/353.
8. نفسه: 18/234.
9. السير للذهبي، 18/ 234.
10. نفسه، 19/121.
11. الغنية للقاضي عياض: ص: 33.
12. نفسها ص 144 ترجمة 37.
13. نفسها، ص: ،147 ترجمة: 52.
14. فهرست القاضي ابن عطية، ص: 119-120: ترجمة: 16.
15. الغنية، ص: ،101 ترجمة: 32.
16. ص: 127، ترجمة 21.
17. ص: 60-61.
18. الغنية: ص: 115، ترجمة: 83.
19. مقدمة مشارق الأنوار، ص: 10- والغنية: ص: 34.
20. الغنية: ،115 ترجمة:38.
21. انظر برنامج التجيبي: ص 70- وصلة الخلف بموصول السلف، ص: 46.
-
أبريل 23, 2011
سعادحياك الله وبياك
موضوع جميل يستحق الدراسة
التعليقات