أعظم ذكرى الخالدين
لا أخفي القارئ الكريم أن أول ما دخل قلبي الإيمان العميق بكرامة الإنسان بعد الله عز وجل وأنبيائه عليهم السلام وأوليائه الصالحين، هذا الإنسان الذي وهبه الله صحة وعافية، وذكاء وموهبة ونبوغا ومع ذلك فهو منبوذ عند البعض غير مكرم كمئات من المرايا الباهرة، والشخصيات النادرة، والأشكال الإنسانية التي أضافت إضافات حقيقية بل، وقدمت مساهمات إلى التراث الإنساني العالمي ما يرفع من ذكراها، وهذا ليس سرا مخبوءا، إنه علني ومبثوث على البعد الإنساني المبرأ من القيود، والمعطر بماء المودة الخالصة أي ما يجعل الإنسان يستحق إنسانيته، وخير الناس من هضم التجارب وأفرز الجديد، وهؤلاء هم التعبير المجسد المنقوش في ذاكرة الأجيال كعمل صالح، أصحابه لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، ليس في آخرتهم فحسب، وإنما مع ذلك لدنياهم؛ لأنهم يعيشون لغيرهم قبل أن يعيشوا لدواتهم وأنفسهم.
ومن أجل ذلك أقول: ما أعظم ذكرى الخالدين الذين حملوا راية العقيدة السمحاء، وعملوا على ترشيد مسار الأسر المسلمة إلى طريق الهدى والفلاح، وإذا كان لكل أسرة مسلمة ما تطرحه من فكر مؤمن بحقائق راسخة أثبت الزمان جدواها، وأشاد العلماء في أبحاثهم العلمية بنجاحها، فهي بالحق وللحق، وهو فضل يمنحه الله عز وجل لأوليائه الصالحين الذين هم صفوته، الذين عبأوا كل قواهم الإيمانية والدفع بها لنشر العلم والمعرفة بين الناس؛ لأن ألذ شيء في الحياة هو العلم وتدوينه وتصنيفه وتلقينه لأهله كغذاء للأرواح يسمو على غذاء الأجسام، وفيه تثبيت للإيمان في نفوس أبنائنا وبناتنا الشباب، لدحض الشبهات والافتراءات وصدق الله العظيم إذ يقول: “وما يدريك لعله يزكى أو يذكر فتنفعه الذكرى” [عبس، 3-4].
والإنسان مهما بلغ من العلم والمعرفة؛ فإنه لا يستطيع أن يرضى عما أبدعه؛ لأنه دوما يحاول أن يصل به العلم والمعرفة إلى مدى أسمى مما بلغ إليه، فالأسر الصامدة لا ينبغي أن تركن إلى الاستسلام وترضى بالتبعية الذليلة، بل عليها أن تعيش مع أبنائها وبناتها في نور متجدد يلمع مشعا من تاريخها الماضي فيبعث فيها روح الأمل وحسن العمل والثقة بالمستقبل.
وجدير بالأسر وهي تسعى لإزالة العثرات عن طريق الأجيال والنهوض لإصلاح الحال، ولولا الأمل لما كانت هناك نجاة من الشقاء والفساد والضلال والأسر مع الأجيال كالفلاحين مع الزروع في الحقول والأشجار في البساتين، وبالمتابعة والمراقبة والتوجيه يكون الجمال والكمال، جمال الرجولة وكمال الإنسان، ولذلك فهي تنتقل بهم من منزلة إلى منزلة في الشرف والارتفاع، داخل المجتمع الشبيه بالغابة الواسعة المظلمة يتيهون فيها. والأسرة كمرشد يدل على طريق الصواب التي تستخرج من الصغار القدرات البشرية، وإلا بقيت معطلة أو ضائعة لم ينتفع بها أصحابها إن لم توجه التوجيه السليم الصحيح، تكون وبالا وخيما على نفسها وأهلها وعلى البشرية جمعاء قال تعالى: “وأما بنعمة ربك فحدث” [الضحى، 11].
وهذا العالم الحائر إن كان يريد أن يعيش في ظلال الأمن والاستقرار نهدي إليه كلمات لعله ينظر بعين الإنصاف إلى الإسلام المنزل من عند رب العالمين ليحل المشكلات المتزايدة؛ لأن الله سبحانه أعلم بمصالح العباد من أنفسهم؛ فإن استجابوا لله حققوا الخلافة في عمارة هذه الأرض، بنشر العدالة والسلام والأمن فيها، وكل أسرة أثبتت نجاحها فهي بالحق تعمل، وذلك فضل عظيم لا يمنحه الله تعالى إلا للصفوة من خلقه التي تمتاز بالصدق، ونقاء الضمير، والخشية لله تعالى؛ ولأنها تنطلق من قاعدة الإيمان التي تستمد منها فكرها وسلوكها؛ ولأنها منارة هدي ترسم مستقبل الأجيال فهي الشيء الذي لا يستعاض عنه، إنها الأمل المرتجى للأمة والإنسانية العطشى، والدفع بها لمواكبة الركب الذي يمتطي صهوة الحضارة، والإضافة المساهمة لإرواء الحياة في كل الميادين والمجالات.
وبأفكار الأسرة التي تعدو وثبا في مدارج الرقي، وما أظنها إلا وستتابع نجاحاتها في إعداد قادة الإنسانية العاملين لرفاهيتها وخيرها، وتبوئ الأمة مكانتها اللائقة بها، وتساهم في إعادة مجدها الزاهر، فهذا النموذج من الأسر ينبغي أن يذكر لها سعيها الدؤوب بالتقدير والشكر؛ لأن ذوي النوايا الطيبة والإصلاح موفقون بالتوفيق والصواب، ولعل ما يهمنا في هذا المجال أن تجلي للناس صفحات خالدة من أعمال المسلمين من هذا التراث الضخم المكنوز في مكتبات الشرق والغرب بالتحقيق والنشر، والإضافة والتجويد حتى لا نقف عند التقليد والمحاكاة، وإلا بارت أمتنا وكسدت.
وكل أسرة تواكب عصرها الذي تعيشه بأحداثه وهمومه وقضاياه، وتستجيب لتطلعات الأجيال الإنسانية إلى غد أفضل، ولبناء حضاري شامخ أصله ثابت في ماض الأمة العظيم، وفرعه في المستقبل النابض المزدهر المشرق بكل نشاط إنساني ذاتي متجدد يتماهى مع الموجات الحضارية العالمية.
ونحن أولى من غيرنا محاولة منا للتعرف على الصعوبات التي لا يجوز أن تجهض نوايانا؛ لأنه بالتجربة والمعاناة والممارسة الفعلية يمكن تذليل كل تلك الصعوبات، وهل نظن أن أجدادنا الذين تبوأوا قمة قيادة البشرية وهم متكئون على أرائك من الديباج والسندس، لقد واجهوا رضي الله عنهم التخلف وشخصوا أسباب كل مرض اجتماعي واقتصادي ورصدوا كل العوائق بالحكمة والفهم لمقتضيات عصرهم، وبمعالجة علمية تحليلية، واستفادوا وأفادوا، وبالتالي كانوا مالكين لإرادتهم بما يخدم الإنسانية حاضرها ومستقبلها، وأصبح الأمر بأيديهم فقرروا مصيرهم في ما هو مرحلي وما هو هدف نهائي.
فالأمة الإسلامية ينبغي عليها تتسلح بالعلم والمعرفة وتتبع كل مستجدات وتقنيات العصر، والنضوج الفكري في الرؤيا، لقد حان الوقت المناسب للخروج من هذا الانكماش المغلق الذي تعيشه الأسر، وبداية رحلة مع روح العصر لتعويض ما فات، والمساهمة من جديد لشحذ ذاكرة الأجيال وجعلها حادة واضحة، وفتح أبواب المستقبل للاتصال والتواصل والتناغم والانسجام والتوافق والتوازن الإنساني المزدهر.
والأسرة المتمدنة هي التي تفرح بنجاح أبنائها وبناتها، وتأسف لإخفاقهم، وتعتبر نجاحهم نجاحها، وإخفاقهم إخفاقا لها، وهذا أمر لا يجوز الخلاف حوله، ليستقر السلام وتسود روح الأخوة الصادقة فيرى الناس حياة أفضل لهذا الجيل والأجيال القادمة من بعدنا، وقدرتها على إشباع حاجة مختلف المشارب الإنسانية، بأسلوب إبداعي يجمع بين العمق والبساطة، في عرض ما تطرحه من موضوعات وخطط، ومعالجتها بالشمول والتنوع..
والله المستعان
أرسل تعليق