أثر العقيدة الإسلامية في محاربة الاستعمار
مفهوم العقيدة الإسلامية ومقاصدها
مفهوم العقيدة الإسلامية
العقيدة لغة: من العقد بمعنى؛ الربط، والإبرام، والإحكام. وتطلق بإطلاقين: حقيقي ومجازي، فالحقيقي كقولنا (عقدت الحبل) أي عقدته. والمجازي كما في قوله تعالى: “لَا يُوَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يوَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْاَيْمَانَ” [المائدة، جزء من الآية: 89].
واصطلاحا: تطلق على ما يصدّقه القلب، وتطمئن إليه النفس، فتنساق إليه الجوارح، ولا يمازجه شك ولا ريب. وعلى هذا يكون مركّب (العقيدة الإسلامية) معناه: الإيمان الجازم بأمور الغيب وأصول الدين الإسلامي، فيشمل ذلك: الإيمان بالله تعالى وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره.
مقاصد العقيدة الإسلامية
مقاصد العقيدة الإسلامية هي الأهداف والغايات التي جاء دين الإسلام لتحقيقها، ورأس هذه المقاصد على الإطلاق نقلُ الناس من عبادة الناس إلى عبادة ربّ الناس، فيخافونه ولا يخافونهم، ويعتقدون نفعه وضرّه لا نفعهم وضرّهم. ثم أن يحفظ للناس أمنهم، فلا تزهق أرواحهم ولا تراق دماؤهم إلا بوجه حق، ثم أن يصون للناس عقولهم على صفاء ونقاء، فلا تلوّثها المكدّرات، ولا تطالها مسكرات ولا مفترات. ثم أن يحفظ للناس نسلهم وشرفهم، فحرم الزنا واللواط والقذف وكلام الخنا…. ثم أن يحفظ للناس ممتلكاتِهم فلا تنهب ولا تسلب. وجماع هذا الأمر هو المعبر عنه عند علماء المقاصد بالضروريات الخمس: الدين، والنفس، والعقل، والنسل، والمال.
وسرّ هذا الترتيب أن الدين رأس الأمر، فإذا فُقد سارت حياة الناس على غير استقامة، وانتفت العلة الأولى لإيجادهم، قال تعالى: “وما خلقت الجنَّ والاِنس إلا ليعبدونِ ما أُريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين” [الذاريات، 56-58]؛
ثم جعلت النفس ثانيا؛ لأن بفقدها يُفْقَدُ من يتديّن؛
ثم العقل ثالثا، لأن فاقدَ عقله مفرّط في نسله وماله؛
ثم النسل رابعا؛ لأنه أوجب من حفظ المال، بدليل أنه لو تعارضا لوجب دفع المال حفاظا على طهارة الأنساب؛
ثم المال أخيرا؛ لأنه في الإسلام لا يعدو أن يكون وسيلة لا غاية، قال تعالى: “وابتغ فيما ءاتاك الله الدار الاَخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا” [القصص، جزء من الآية: 77].
مفهوم الاستعمار ودوافعه
له معنيان لغوي واصطلاحي؛ فالأول: أن لفظ الاستعمار مشتق من عَمَر المكان، وأَعْمَره المكانَ، واسْتَعْمَره فيه: جعله يَعْمُره، ومكّنه من ذلك. ومنه قوله تعالى: “والبَيْت المَعْمور” [الطور، 4]، وقوله تعالى: “هو أَنشأَكم من الاَرض واسْتَعْمَرَكم فيها” [هود، جزء من الآية: 61]؛ أَي أَذِن لكم في عِمارتها، واستخراجِ الرزق منها.
فالأصل اللغوي يفيد معنى طلب التعمير، والدعوة لتحقيق العمران.
أما المعنى الاصطلاحي فلا علاقة له بالمعنى اللغوي، إذ هو كما جاء في المعجم الوسيط: “استيلاء دولة أو شعب على دولة أخرى وشعب آخر لنهب ثرواته، وتسخير طاقات أفراده والعمل على استثمار مرافقه المختلفة”[1].
وقيل في تعريفه: “مجموعة الأعمال التي من شأنها السيطرة، أو بسط النفوذ، بواسطة دولة أو جماعة منظمة من الناس، على مساحة من الأرض، لم تكن تابعة لهم، أو على سكان تلك الأرض أو على الأرض والسكان في آن واحد”[2]
دوافع الاستعمار
نستطيع أن نقول إن وراء كل استعمار دوافع ومطامع، تتلخص في دوافع أصول، وما عداها فهو من فروعها:
دافع معنوي: ويتجلى في حب الرياسة والسلطان، وفي هذا إذلال للنفوس، واستعباد للآدميين؛
دافع مادي: ويتجلى في حب التملك والتسلط على ثروات الغير، وفي هذا استنزاف لممتلكات الآخر بغير وجه حق؛
دافع ديني: ويتجلى في الإخضاع إلى المعتقد، وفيه تتجلى أبشع صور الاسترقاق الفكري، والاستخفاف العقلي، والشعور بدونية الآخر ومعتقَده.
على أن هذه الدوافع في الجملة جِبلات بشرية، جاءت العقيدة الإسلامية لإصلاحها وتهذيبها وتقويمها.
علاقة العقيدة بالاستعمار
يمكن أن نجمل علاقة العقيدة -أيّة عقيدة- بالاستعمار في مسألتين اثنتين هما: الأولى: تمكين العقيدة للاستعمار؛ والثانية: محاربة العقيدة -الإسلامية نقصد- للاستعمار. فهما إذن مسألتان متقابلتان متعارضتان.
أولا: تمكين العقيدة للاستعمار
من ينظر في تاريخ الأمم، ويستحضر مدارج رقيّ الحضارات يجد أغلبها لم يصل مرحلة القوة إلا على حساب غيره من الأمم والحضارات، والغريب في هذا أن تجد المُستعمر يُعَبُِّّد طريق الاستعمار باسم العقيدة التي يؤمن بها، ويسعى إلى نصرتها، وهذه أمثلة على ذلك:
الاستعمار النصراني وعقيدة الفداء
تتلخص عقيدة الفداء عند النصارى في أن عيسى ابن مريم -عليهما السلام- هو مخلّص الناس من خطيئة آدم عليه السلام هل هو إله، أم ابن الإله، أم إله دون الإله… والأغرب من ذلك أن هذه عقيدة الفداء تمنح النصراني اعتقاداً جازما بنجاته على الرغم مما يحدثه من ذنوب وفظائع، إذ يكفيه الإيمان بالمسيح لينجو، وعليه فهو لا يبالي بالوحشية والقسوة التي يتعامل بها مع الشعوب المستضعفة…
وينقل المبشر جاك مندلسون قول ملك فرنسا: “الدين ضروري لكل الناس، لكنه أكثر ضرورة في المستعمرات الآهلة بالعبيد التي لا يمكن أن تحوي أملاً في حياة أفضل إلا بعد الموت”، فالدين يستعمله هؤلاء الساسة في تخدير الشعوب، وليكون مطية يحكمون من خلالها الخناق على الشعوب.
الاستعمار اليهودي وعقيدة التفضيل
تقتضي هذه العقيدة أن -اليهود وحدهم- شعب الله المختار، وأنهم أمة من دون الناس… وعليه فالاستعمار في الثقافة اليهودية إنما هو إصلاح لأحوال الناس الذين هم دون الجنس اليهودي في العصمة والحقوق…
البوذيون وعقيدة التنوير
وكذلك البوذيون، نسبة إلى بوذا (المنوّر أو المستنير)، إنما جابوا البلدان، وعاكسوا الأديان لاعتقادهم صلاح عقيدتهم، وأن فيها الخلاص من الآلام، والبعد عن الأوهام، مع أنها ليست من الديانات السماوية أصلا!!
محاربة العقيدة الإسلامية للاستعمار
الأصل المعول عليه في هذا الباب أن محاربة الاستعمار في الإسلام واجب ديني تفرضه عقيدة المسلم، وواجب وطني يلزم به الانتماء إلى الجماعة، وواجب أخلاقي يتوافق مع إنسانية الإنسان وفطرتِه. وقد ينقلب الإنسان على فطرته فيعاكسها، أو يتمّرد على جماعته فيخونها، فلا يبقى من ملجأ ولا منجى بعد ذلك إلا لعقيدة الإسلام؛ فإنها بصفائها تحكم صاحبها فتشق عليه مخلفاتُها؛ لأنه يعلم سعيه لخلافها يصيّره من غير أهلها.
ومن صور مناهضة العقيدة الإسلامية للاستعمار:
• إن الاستعمار وإن بدا في الظاهر حركةً عسكريةً إلا أن حقيقة أمره لا تخلو من خلفية صراع المِلَل، فكان طرد المستعمر واجبا دينيا كفائيا، تفرضه عقيدة الإسلام، ويأمر به العالمون، وينهض به القادرون، قال عليه الصلاة والسلام: “من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله” [متفق عليه].
• إن الاستعمار إذلال للنفوس، وتسلّط بغير حق، وقهر للمستضعفين من الرجال والنساء والولدان. والعقيدة الإسلامية ترفض الذل والتحقير، وتنأى بالمسلمين عن أن يكونوا مستضعفين، وتحلّيهم بشعار (العزة بالله ولله)، قال تعالى: “وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَّدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا” [النساء، 75] والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
• العقيدة الإسلامية تمنع التّخلّف عن ردّ المستعمر: وتعتبر ذلك تقصيرا في واجب النصرة، وقعودا لا يرتضى، وموالاة لأعداء الدين، والله تعالى يقول: “اِلذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُومِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ العِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعًا” [النساء، 139].
• العقيدة الإسلامية تمنع سياسة التّخذيل: والمواقف التّخذيلية قد يواجهها قبل الابتلاء بمصيبة الاستعمار، كما قد يعانون منها وهم يدفعون بأس المستعمر ساعة العسرة، تماما كما كان يقع لسيد الخلق عليه الصلاة والسلام وهو يصدّ عدوان المشركين، قال تعالى: ”لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة وفيكم سماعون لهم والله عليم بالظالمين” [التوبة، 47]، وفي هذه الآية تجسيد حيّ لأهول مشاهد الفتنة، وآثارها في كل وقت.
والتخذيل المقصود هنا هو ما كان بنية التثبيط والتحبيط والإفشال، فهؤلاء يستحقون مكر الله وغضبه ولعنته؛ لأنهم يشاقون صفوف المسلمين ساعة العسرة. وهم في كيدهم أخطر من العدو نفسه. قال صلى الله عليه وسلم فيما رواه أحمد: ”ما من امرئ يَخْذُلُ امرءا مسلما في موطن يُنتقص فيه من عِرْضِه وينتهك فيه من حُرْمَته إلا خَذَلَهُ الله تعالى في موطن يُحب فيه نُصْرَته، …” [الحديث].
ونتيجة لما سبق نستطيع أن نجزم بأن الشرط الأول لدفع المستعمر في الإسلام إنما هو صلاح العقيدة والإخلاص فيها ولها، ولذلك تجد الذين قاموا بفكرة الجهاد بالمغرب –مثلا- هم شيوخ الزوايا، والطرق الصوفية، ورؤوس الناس من الصلحاء الأخيار الأبرار؛ فإنهم كانوا السبّاقين لمراكز القيادة ومنابر الريّادة، وبتوجيهاتهم السديدة -بعد فضل الله تعالى- ضعفت قوة المستعمر، وانكسرت شوكته، فعاد أدراجه بعد أن جرّب الكيد تارة، والحيلة تارة، وإثارة الشبهات تارة أخرى، فلم ينتفع من ذلك شيئا، وكان وعد الله تعالى مفعولا: “يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم وياْبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون” [التوبة، 32].
—————————-
1. المعجم الوسيط (2/627).
2. مالك بن نبي وموقفه من القضايا الفكرية المعاصرة، رسالة ماجستير، إعداد الطالب: حسن موسى محمد العقبي، 1426هـ ـ 2005م، من موقع: ttp://forum.univbiskra.net.
أرسل تعليق