أبو بكر بن سيد الناس رمز الوحدة الثقافية
الحافظ الكبير[1] عالم المغرب أبو بكر بن سيد الناس
رمز الوحدة الثقافية بين الأندلس ودول المغرب: الأقصى، والأوسط، والأدنى
لقد كانت لحرية الحركة الأثرُ البين في سرعة انتقال المعارف، وتوسيع مجال الهوية الثقافية، فكانت الكتب تنتقل بين الشرق والغرب في مدة وجيزة من تاريخ وضعها، فالكتاب مثلا إذا أُلف في خُوَارِزم أو شيراز، ينتقل إلى مراكش بالمغرب، أو قرطبة بالأندلس في نفس السنة. والذي يقرأ في مقدمة ابن خلدون (ت 808 هـ)، ما يتعلق منها بالعلوم وتصنيفها؛ يجده يصف عن معاينة كُتُبا كُتبت في نفس الوقت الذي كان يكتب هو فيه مقدمته، أو قبيل ذلك بقليل.[2]
وقد أشبه هذه الحركةَ التي مزجت بين السرعة والحرية والاتساع حركةُ طلاب العلم، ورواد المعرفة، وإِنَّ كتب المشيخات وكتب الرِّحْلات لدليل حق، وشاهد صدق على هذا الذي ذكرناه، وتتبع ذلك يطول؛ لكني أحيل القارئ على أي كتاب من كتب التراجم، فإنه سيجد فيه النص على ما يمكن تسميته بالخريطة العلمية، أي المجال الجغرافي الذي تَحَرك فيه طلاب العلم لاكتساب المعارف وتكوين الشخصية الثقافية، فتجدهم يقولون مثلا: سمع فلان بكذا وبكذا، ورحل عِلان إلى كَيْت وكيت، ويُعددون أمصارا كثيرة متفرقة في الشرق والغرب؛ بَعُدَ ما بينهما جدا. فالبخاري مثلا من مدينة بخارى التي توجد الآن في دولة (أوزْبَكِسْتان) لم يترك مدينة من المدن ذوات الآثار إلا ورحل إليها، فرحل إلى بلْخ والرَّي ونيسابور وبغلان وقيسارية وحمص ودمشق وعسقلان وواسط ومكة والمدينة وبغداد والبصرة والكوفة ومصر[3]، وإن ما بين مصر وبخارى لشيء كثير. وهذا أيضا بقي بن مخلد أصله من الأندلس، اتسعت رحلته وطوف الشرق والغرب، فدخل مصر والحجاز ودمشق وبغداد والكوفة والبصرة[4]، وهذا أيضا محمد بن عبد الملك بن أيمن الأندلسي رحل إلى مصر ومكة وبغداد[5].
وإذا كان لطلاب العلم عامة هذا الفضل الكبير في نقل المعارف بين الشرق والغرب وحمل الكتب إلى أقاصي البلدان مُسْهِمين بذلك في تكوين الشخصية الثقافية الموحدة، فإن لعلماء الحديث وطلابه قَصَبَ السبق في هذا المضمار، والقدْحَ المُعَلى في هذا المجال؛ فإني تَتَبعت الآلاف من تراجم الرجال المنتسبين إلى شتى العلوم، في جملة وافرة من كتب التراجم والرجال، فلم أجد أهل فن من الفنون يُذكرون بسعة الرحلة كما يُذكر بذلك أهل الحديث، حتى غدت الرحلة عنوانَ فلاح الطالب عندهم، وَأَلفوا في آدابها كتبا، كما صنع الخطيب البغدادي[6]، بل غدا الكلام على الرحلة وشروطِها وآدابها نوعا من أنواع علوم الحديث التي تشتمل عليها كتب المصطلح. فلهؤلاء الرجال الكبار والأئمة العظام يرجع أكبر الفضل في نقل المعرفة إلى الأمصار، وإشاعتها بين الناس، إذ لم يَنقل أحد من أهل الفنون خطاه كما نقلوا، ولم يرحل البتة كما رحلوا، ولم يمكث في الرحلة كما مَكثُوا[7]، ولم تكن الرحلة قاصرة على أوان الطلب وإبان التلقي، وإنما امتدت حتى تشمل العلماء المنتهين، فرحل منهم جماعة كبيرة من مكان إلى مكان، بثوا فيه العلم، ونشروا المعرفة.
وكأني أرى هذه الحركة الدءوبة في العالم الإسلامي القديم للكتب والطلبة والعلماء، ثم أفتح عينيَّ الآن فلا أرى لها نظيرا، فأفهم بيسر وسهولة لماذا كان التواصل المعرفي بين المغرب بأجزائه، والمشرق بأطرافه، ثم بين الشرق والغرب تاما وكاملا، وأفهم أيضا لماذا كانت الهوية الثقافية واحدة بين المسلمين وإن تباعدت أقطارهم.
وها هو ذا الغرب الإسلامي القديم، المغرب بأقطاره: الأقصى والأوسط والأدنى، ثم الأندلس؛ كانت له هوية علمية ودينية واحدة رغم اتساع الرقعة، وكثرة الخلق، وتتابع الدول. وما ذلك إلا لكون سلطان العلم كان له الحضور التام، والتأثير الكامل. وها هو ذا إمامنا أبو بكر ابن سيد الناس الذي وصفه الذهبي بـ: “عالم المغرب”[8]، وحلاه بتحليات عالية فقال: “الإمام الحافظ العلامة الخطيب”[9]، كان رمزا من رموز الوحدة الثقافية بين الأندلس ودول المغرب، ولم يكن فيها بأوحد، بل سواه من رموزها كثير، فإن هذا الإمام الكبير أندلسيُّ النشأة، إشبيليُّ المولد، ثم رحل بعد الاكتمال إلى المغرب، فأقام بالقصر الكبير مدة، وبطنجة مدة أخرى، أقرأ بجامعها الكبير، وخطب به وأَمَّ، ثم بعد ذلك رحل إلى بجاية من المغرب الأوسط، ففعل نظير ما فعل بالقصر الكبير وطنجة، ثم طُلِب من بجاية إلى تونس، فألقى بها عصا التَّيْسار، وبث بها علما كثيرا، وبها مات، وورخ وفاته القاضي عز الدين الشريف في وفياته بسنة تسع وخمسين وست مئة[10].
فلننظر إلى هذا النموذج الذي كان رمزا لوحدة ثقافية بديعة، أكدت ذلكم الامتزاج التام بين مسلمي الغرب الإسلامي، والذي سهل هذا التواصل المعرفي، ويسر هذه الحركة الفائقة في انتقال العلم: علماء، وطلبة، وكتبا.
وكما أن الرخاء الاقتصادي الآن يقاس بمدى حركة انتقال الرساميل المادية، فإن الرقي الثقافي ينبغي أن يقاس أيضا بمدى انتقال (الرساميل) العلمية، ومن استطاع الآن أن يوجِد من الظروف والأحوال مثلما وُجِد لابن سيد الناس في زمانه، فإنه سيكون سيد الناس في زمانه.
—————————-
1. هو أبو بكر محمد بن أحمد بن عبد الله بن محمد بن يحيى ابن سيد الناس اليعمري الأندلسي الإِشْبِيلِي، له ترجمة في تذكرة الحفاظ 4/1450_ 1452، وتاريخ الإسلام 48/392- 393 (تحقيق عمر عبد السلام تدمري، دار الكتاب العربي، بيروت، ط1، 1419). وهو غير حفيده أبي الفتح محمد بن محمد بن محمد اليعمري المصري (ت734)، صاحب “عيون الأثر في فنون المغازي والشمائل والسير” و “النفح الشذي بشرح جامع الترمذي” وغيرها من التصانبف. انظر ترجمة الحفيد في “تذكرة الحفاظ” 4/1503. “الوافي بالوفيات” 1/219_ 234 (تحقيق أحمد الأرناؤوط وتركي مصطفى، دار إحياء التراث العربي، بيروت، ط1، 1420.
2. من ذلك قوله: “ولقد وصل إلينا في هذه العصور تأليف لبعض العراقيين وهو شرف الدين الطِّيبي… شرح فيه كتاب الزمخشري هذا – يعني الكشاف- وتتبع ألفاظه وتعرض لمذاهبه في الاعتزال بأدلة تزيفها” (مقدمة ابن خلدون 3/936. تحقيق: د/ علي عبد الواحد وافي. ط نهضة مصر 2004). وقال في موضع آخر: “ويبلغنا عن أهل المشرق أن بضائع هذه العلوم – يعني العلوم العقلية وأصنافَها – لم تزل عندهم موفورة…، ولقد وقفت بمصر على تآليفَ متعددةٍ لرجل من عظماء هَرَاةَ من بلاد خراسان، يُشْهَر بسعد الدين التفتازاني، منها في علم الكلام وأصول الفقه والبيان، تَشهد بأن له ملكةً راسخة في هذه العلوم، وفي أثنائها ما يدل على أن له اطلاعا على العلوم الحِكَمية، وقَدَما عاليةً في سائر الفنون العقلية”. (نفس المصدر 3/1011). وقال في موضع آخر: “ووصل إلينا بالمغرب في هذه العصور ديوان من مصر منسوب إلى جمال الدين بن هشام من علمائها، استوفى فيه أحكامَ الإعراب مجْملة ومفَصلة، وتكلم على الحروف والمفردات والجمل، وحذف ما في الصناعة من المتكَرِّر في أكثر أَبْوابها، وسماه بالمغني في الإعراب، وأشار إلى نكتِ إعرابِ القرآن كلها…، فوقفنا منه على علم جَمٍّ يشهد بعلو قدْره في هذه الصناعة وَوُفُور بضاعته منها…”. (نفس المصدر 3/1131)، وقال في موضع آخر: “…ما وصل إلينا بالمغرب لهذا العهد من تأليف رجل من أهل صناعة العربية من أهل مصر، يعرف بابن هشام، ظهر من كلامه فيها أنه استولى على غاية من ملكة تلك الصناعة لم تحصل إلا لسيبويه وابن جني وأهل طبقتها لعظم ملكته، وما أحاط به من أصول ذلك الفن وتفاريعه وحسن تصرفه فيه”. (نفس المصدر 3/1108)، وقال وهو يتحدث عن أصول كتب البلاغة ومصنفيها: “…وجلال الدين القزويني في كتاب الإيضاح والتلخيص، وهو أصغر حجما من الإيضاح” (نفس المصدر 3/1137). توفي القزويني سنة 739، والطيبي سنة 743،وابن هشام سنة 761، والتفتازاني بسمرقند سنة 792.
3. انظر سير أعلام النبلاء 12/394- 395، والوافي بالوفيات 2/148.
4. انظر الوافي بالوفيات 10/115.
5. انظر تاريخ علماء الأندلس لابن الفرضي ص428. (تقديم د/ناصر الأنصاري، الهيئة المصرية العامة للكتاب، ط2، 2008م.
6. له كتاب الرحلة في طلب الحديث، وهو مطبوع مشهور، وتحدث في الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع، عن شروطها وآدابها بتفصيل بديع، وكذا صنع قبله القاضي الرامهرمزي في المحدث الفاصل. وهو مطبوع متداول.
7. كان المحدثون يمكثون في الرحلة السنواتِ ذواتِ العدد، ومن أكثرهم مكثا فيها: الحافظ الجوال أبو عبد الله محمد بن إسحاق بن محمد بن يحيى بن مندة (ت395)، قال الذهبي: “ولم أعلم أحدا كان أوسع رحلة منه، ولا أكثر حديثا منه مع الحفظ والثقة، فبلغنا أن عدة شيوخه ألف وسبعمئة شيخا”. وقد ذكر الذهبي في السير جملة من المدن التي سمع بها، فذكر منها نيسابور، وبخارى، وبغداد، ومصر، وسرخس، ومرو، ودمشق، وطرابلس الشام، وحمص، وتنيس، وغزة. ثم قال بعد ذلك: “وسمع من خلق سواهم بمدائن كثيرة” “سير أعلام النبلاء” 17/30: مؤسسة الرسالة، ط11، 1417، وقال في “تذكرة الحفاظ” 3/1032: “ولما رجع من الرحلة الطويلة كانت كتبه عدة أحمال حتى قيل إنها كانت أربعين حملا، وما بلغنا أن أحدا من هذه الأمة سمع ما سمع، ولا جمع ما جمع، وكان ختام الرحالين، وفرد المكثرين، مع الحفظ التام والمعرفة والصدق وكثرة التصانيف”. ونقل ابن الجزري في غاية النهاية : أنه “بقي في الرحلة أربعين سنة”.
8. تذكرة الحفاظ 4/1451.
9. تذكرة الحفاظ 4/1451.
10. تذكرة الحفاظ 4/1451.
أرسل تعليق