أبو المحاسن يوسف الفاسي
كنت قد خصصت مقالة للشيخ العالم سيدي أبي عبيد محمد الشرقي دفين أبي الجعد، وأبرزت علو همة هذا الرجل الفاضل، وتأسيسه لتجمع عمراني في منطقة قاسية صعبة التطويع بما ينسجم وأخلاق “المدرسة الجزولية” التي ينتمي إليها كنتيجة لسلسلة مباركة لانتقال العلم والصلاح في علاقة جدلية مع العمران بمفهومه الاستخلافي.. هذا الرجل سيقول عن علَم آخر من علماء المغرب الكبار: “هذا صاحب الوقت وشيخ الطريقة ورأسي تحت قدميه”. والمقصود هنا بكلام الشيخ أبي عبيد الشرقي هو العالم الفاضل الأستاذ أبو المحاسن يوسف الفاسي، الرجل الذي قال فيه شيخه سيدي عبد الرحمن المجذوب “عندي ابن الفاسي نلقى به العرب، وتارة يقول نلقى به الشرق والغرب، وكان كثيرا إذا رآه يقول فيه مصباح الأمة”.
وقد ذكر صاحب “مرآة المحاسن من أخبار الشيخ أبي المحاسن” أبو حامد محمد العربي بن يوسف الفاسي الفهري عن والده أبي المحاسن يوسف الفاسي أن “من رسائله إلى سيدي محمد الشرقي يعرفه بنفسه وحاله ومقامه”، قال “كنت من صغري مستغرق الأوقات في تعلم علم الظاهر حتى حصلت منه ما يسر الله سبحانه وتعالى وحصل لي به في بلادي صيت عظيم وجاه في الخلق، ثم إن الله تعالى أخذني إليه وغسل من قلبي الأكوان ولم تقف همتي على شيء دونه وحببني فيه ورفع همتي إليه وشغلني به عما سواه، واستوى عندي منه العز والذل والفقر والغنى وغير ذلك من الأضداد أستحليه وأتلذذ به، وهذا كله على سبيل الاضطرار لا على سبيل الاختيار ثم كنس وجودي، أفناني عن شهودي لغيبتي من مشهودي تارة بكشف صفاته وتارةً بمشاهدة آثار عظمة ذاته، واستولى على باطني أمر الحق تعالى وتقدس حتى لم يبق هاجس ولا وسواس وكادت تستولي علي الغيبة عن الإحساس ثم ردني إلى الوجود وأبقاني به لبعض مصالح عباده فأنا مع الخلق بالحق نشاهد الجمع في بساط الفرق”. وهنا قال محمد الشرقي: “رأسي تحت قدميه”..
فمن يكون هذا الفاضل الذي قال عنه أبو عبيد الشرقي ما قال؟
هو سيدي يوسف بن محمد بن يوسف الفاسي ثم القصري المكنَّى بأبي المحاسن، أصل عائلته من الأندلس، وكان أحد أجداده قد رحل إلى المغرب وسكن مدينة القصر الكبير وهي المدينة التي ولد فيها يوسف ليلة الخميس لتسع عشرة ليلة خلت من ربيع الأول عام 937 هـ.
نشأ يوسف في مدينة القصر الكبير في أسرة ميسورة فقد توسع والده محمد بن يوسف “في التجارة وكثر ماله، واتسعت حاله، وغزرت مادة الثراء لديه، وعظمت نعمة الله عليه، كثير التجر، والحرث، والماشية، وغيرها من الفوائد الناشئة” كما يقول صاحب “مرآة المحاسن”.. حفظ يوسف القرآن على يد الشيخ أبي الحسن علي الشهير بالعربي، وتعلم مبادئ العلوم اللغوية والدينية بالقصر الكبير ثم رحل إلى فاس، ودرس بالقرويين والمدارس الملحقة بها، ثم رجع إلى القصر واشتغل بالتدريس، وأقبل عليه الناس إقبالاً عظيما، ثم رجع إلى فاس مرة أخرى ليتخذها مقاما نهائيا إلى آخر حياته. أخذ سيدي يوسف الفاسي العلم على عددٍ من العلماء منهم الشيخ أبو زيد عبد الرحمن الخباز القصري؛ قرأ عليه رسالة ابن أبي زيد القيرواني وألفية ابن مالك ولاميته والصغرى للسنوسي، أما دراسته بفاس فكانت على مرحلتين: تقول نفيسة الذهبي في كتابها “الزاوية الفاسية، مطبعة النجاح الجديدة، 2001: ص 74): “فقد قصدها مرة صحبة والده قبل سنة 960هـ/ 1553م حيث أدرك عددا من شيوخها المرموقين وأشهر من ذكر أخذه عليه منهم؛ الشيخ أبو عبد الله محمد بن أحمد اليسّيتني، والقاضي أبو محمد عبد الوهاب الزَّقاق وقاضي القرويين وخطيبها الشيخ عبد الرحمن الدكالي. ولم تطل إقامته بفاس هذه المرة، ولكنه جدد الرحلة إليها ثانية ودشن مرحلة أعلى على يد عدد من جهابذة الشيوخ أمثال: الشيخ أبي عبد الله محمد بن أبي خروف التونسي (صديق الشيخ اليسيتني) أستاذه في الأصلين والبيان والمنطق، والعلامة أبي عبد الله محمد بن عبد الرحمن التلمساني خطيب القرويين والأندلس قرأ عليه التفسير والتوحيد والفقه ولازمه كثيراً، والشيخ أبي عبد الله محمد بن أحمد ابن مجبر المساري؛ قرأ عليه كتب اللغة وخاصة الألفية.. واستفاد يوسف الفاسي من الشيخ مبارك بن علي التارخي المصمودي السوسي، وأبي الحسن علي بن هارون، وأبي محمد عبد الواحد الونشريسي. وقد عاد أبو المحاسن إلى القصر الكبير وتصدر للتدريس مدة قاربت العشرين سنة، وحقق مكانة علمية جعلته محط إقبال الطلبة فاكتظت مجالسه حتى تنافس الناس في حضورها..
أما شيخ أبي المحاسن الفاسي في التصوف فهو العارف سيدي عبد الرحمن المجذوب دفين مكناس.. ويتصل سند أبي المحاسن الفاسي بالطريق الجزولي والزروقي بواسطة شيخه المجذوب، وعن طريق انتفاعه بعدد كبير من رجال الصلاح الشاذليين على رأسهم والد يوسف والشيخ أبو سالم الزواوي التونسي وأبو محمد عبد الله الهبطي..
قال محمد المهدي الفاسي في “ممتع الأسماع” (الطبعة 1، 1989: ص: 138): “أن سيدي عبد الرحمن المجذوب جاء إلى المكتب “ومسح على رأس سيدي يوسف الفاسي وقال له: علمك الله علم الظاهر والباطن، ثم التفت إلى المعلم وقال “لابد نوارة هذا تتفتح، وإذا أحياك الله ترى” وكان قبل ذلك يأتي إلى الحومة، ويقول بدار الفاسي نوارة لابد أن تفتح”. لقد أشرق باطن يوسف بنور التوحيد، واضمحلال ما سوى الله تعالى، وانخرط في سلك الشيخ المجذوب، وكان أول شيء فاجأه أنه كان يقرأ في المكتب فكتب في لوحه “ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الاَرض مراغما كثيرا وسعة” [ الانفطار، 19].
قرأ يوسف الفاسي على علماء القصر الكبير ما كتب له، ثم سافر به والده إلى مدينة فاس للقراءة على مشايخها، فكان من التدارك الرحماني أن مكن في سنين قليلة من تحصيل العلوم، فتكيف له من ذلك ما لم يتكيف لكثير من الطالبين في أضعافها، ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، ثم رجع من فاس إلى القصر بعلم غزير فانتفع به الخاص والعام وأقام للعلم سوقا، وأحيا الله به من يومئذ البلاد والعباد، وسرت محلة العلم وتعلمه في الخاص والعام، وظهرت بركته فيهم وفي أهليهم وأولادهم إذ كان علمه مصحوبا بالنور، والفتح الرباني، وتخرج به كثير من أهل الطلب فاستقل بذلك القطر برياسة العلم والدين منفردا في ذلك إماما متبوعا مسموعا…” كما في “ممتع الأسماع”.
رفع الشيخ المجذوب من مكانة يوسف الفاسي بشكل مثير للانتباه، مما يوحي بإحساس هذا الرجل الفاضل بالدور العلمي والتربوي الحاسم الذي سيقوم به أبو المحاسن في المغرب برمته، بل وامتداد إشعاعه إلى الشرق العربي.. كان المجذوب يقول: “عندي ابن الفاسي نلقى به العرب، وتارة يقول نلقى به الشرق والغرب، وكان كثيرا إذا رآه يقول فيه مصباح الأمة”، ويقول: “أنه لا بد أن يكون في مقام الغزالي” ويقول: “لا يوجد قبله ولو فتش المفتش ما عسى أن يفتش” ويقول: “من أحب أن ينظر إلى قلبي فلينظر ابن الفاسي”، وكان يقول أواخر أمره “سيدي يوسف كنت أنا شيخه واليوم هو شيخي، ولما سلك على يدي شيخه تعرض للأذى من طرف كثير من أهل العلم والطريق، وكانوا يلومونه على صحبته له، ورفعوا به شكاية لعلماء فاس وشيوخه ليرغموه على مفارقة شيخه ولكنهم فشلوا في ذلك، ويسجل التاريخ موقفا شجاعا لخطيب القرويين محمد بن جلال التلمساني الذي وصف المنكرين على أبي المحاسن بالجهل المركب..
وكان المجذوب يقول: ابن الفاسي كالملح لا يستغني عنه أحد، ويقول فيه: من مسس طعامه فليذهب إليه يُملحه، وكان يقول لأصحابه يوسف “خَمّل بيوتى إلى القاع” وهي عبارة بالدارجة معناها “نظف بعمق وإتقان” وكفى بها نعمة أن يوصف العبد بإتقان التنظيف.. وكان المجذوب يقول: “أن يوسف سيكون له أتباع كثير متتابعون تنتشر منهم الأذواق العالية ويكونون واقفين في مقام الدعوة والتمكين”..
عاصر الشيخ يوسف الفاسي ثلة من الشيوخ والعلماء والتقى بهم وأخذ عن بعضهم وصاحب بعضهم؛ من أصحابه نذكر محمد السبع ابن عبد الرحمن المجذوب، والشيخ أبو السرور عياد والشيخ علي بوبصلون، ومن الذين أخذ عنهم أبو المحاسن يوسف إبراهيم الزواوي التونسي كان يتردد عليه منذ استيطان الشيخ الزواوي القصر الكبير قبل انتقاله إلى فاس، والزواوي هذا من تلاميذ الشيخ عبد العزيز التباع، ومنهم الشيخ أحمد بن منصور الحيحي، والشيخ الشهير سيدي عبد الله الهبطي والشيخ الحسن بن عيسى المصباحي والشيخ عبد الله بن مخلوف الضريسي والشيخ أبو النجا سالم العماري الذي لقن يوسف ذكرا كان أخذه عن شيخه سيدي عبد الرحمن بن ريسون عن الشيخ الغزواني-صاحبنا- والشيخ سعيد المشترائي والشيخ الكبير عبد الله بن ساسي البوسبعي.. وقد عاصر يوسف الشيخ عبد الله بن حسين التمصلوحتي لكنه لم يلتقي به -على الرغم من أن هذا الأخير دعاه لذلك- وإنما زار قبره مباشرة بعد وفاته في قصة فصلها صاحب (ممتع الأسماع: ص: 144)..
تقول نفيسة الذهبي (ص: 77): “الواضح أن الشيخ إبراهيم الزواوي التونسي يعتبر واسطة ثانية إلى الطريق الزروقي بعد الشيخ عبد الرحمن المجذوب بينما مثل الآخرون السلسلة الجزولية في أسانيده إما بواسطة الشيخ عبد الله الغزواني أو الشيخ عبد العزيز التباع.. وأهم ملاحظة يمكن إبداؤها بخصوص سند الشيخ أبي المحاسن وزاويته هي التقاء السندين الجزولي والزروقي، وأبو المحاسن هو أحد الشيوخ الأولين في السلسلة التي تتصل بواسطتها أسانيد عدد من الزوايا المغربية بهما نذكر من بينها: سند الدلائيين عن طريق أبي المحاسن، وسند العياشيين عن طريق الدلائيين، والزاوية المعنية عن طريق أبي المحاسن وأخيه عبد الرحمن، والناصريين عن طريق الدلائيين وإن كان هذا أضعف من سندهم عن طريق الشيخ عبد الله بن حسين الرقي إلى الشيخ زروق”.
تبدو العلاقة بين الشيخ المجذوب ويوسف الفاسي حاسمة لفهم الأدوار العلمية والاجتماعية والسياسية التي ستقوم بها الزاوية الفاسية بفاس والمغرب كله، وعلى الرغم من التباعد الظاهر بين مسلك كل من الرجلين خصوصا على مستوى التحصيل العلمي؛ فإن تشابها في الأهداف الصوفية وتكاملا في التجربة التي تبنتها الزاوية الفاسية، وكما توضح نفيسة الذهبي في كتابها القيم الزاوية الفاسية (ص: 90) فالشيخ المجذوب قام بالدعاية للفاسيين، ولم ينقطع عن التنويه بأبي المحاسن بين أصحابه.. أما الفاسيون فإنهم واصلوا طريقهم به وكتبوا عنه أكثر مما كتب عن معاصريه، واعتبروه أصل وراثتهم الروحية وسبب ما حققوه في فاس، من ذلك قول صاحب “روضة المحاسن الزهية بمآثر الشيخ أبي المحاسن البهية” محمد المهدي الفاسي: “هذا ونحن والحمد لله ليس علينا ظاهرا، ولا باطنا إلا بركته، فنحن بفاس أم القرى المغربية، ومنبع الفنون العلمية نُعلِّم العلم بها، ونوضح الأحكام لأهلها، ونهذب الطريقة لمريديها، ونلقن الحقيقة لطالبها، وقد لاح علينا نور ساطع للوجود وبركة عامة ترِدُها الوفود حتى لقد اهتدى بسببنا والحمد لله خلائق بدو وحضرا”..
وتجدر الإشارة إلى أن الشيخ أبي المحاسن سكن، بعد انتقاله النهائي من القصر الكبير، حومة العيون من عدوة القرويين بفاس، كان ذلك سنة 988هـ/ 1580م، ثم انتقلت الأسرة إلى حي المخفية بعدوة الأندلس بعد حوالي سنة ونصف، وسكنوا في أقصى الدرب الجديد دارا على وجه الرهن قبل أن يمتلكها الشيخ أبو المحاسن من ماله الخاص..
تقول نفيسة الذهبي في كتابها “الزاوية الفاسية” بشأن الإمكانيات المادية للشيخ أبي المحاسن (مطبعة النجاح الجديدة، 2001): “ولم يغب نصيب أبي المحاسن يوسف من المال والعقار رغم كونه لم يعمل في التجارة، فقد كانت له “مستغلات من الحلال المحض الخالص، يصرفها فيما يحتاج إليه”. ولا شك أنه فضلا عن ذلك استفاد من تجارة والده وكان له نصيب في ميراثه منه، فالإشارات إلى إنفاقه على شيخه عبد الرحمن المجذوب، وعلى الفقراء، وذوي الحاجات توحي بمال وافر ظل ينفق منه حتى أتى على آخره. كما توحي بذلك ضمنيا عند الحديث عن تنقلاته إلى فاس وإقامته من أجل استكمال التعليم ومساعدة بعض الطلبة على التعلم إلى جانب ما صرف عند اتخاذ الزاوية أو عند الزيادة فيها، وبناء مسجدها وتجهيزه بكل ما يحتاجه” (ص: 67)..
وقد مثلت هذه الدار المباركة –بحومة المخفية- النواة الأولى للزاوية الفاسية، ذلك أن الشيخ وأهله سكنوا في الأعلى وبدأ الناس يجتمعون للذكر والصلاة في الأسفل، ثم توسع حواليها، بما يعني تطور الحرم إلى حوز وفق نظرية بول باسكون، فاشترى أبو المحاسن دويرة مجاورة صار يجتمع فيها إلى تلاميذه وأصحابه، ثم اشترى دار ثانية جنوب الأولى وكان ذلك سنة 1003هـ/ 1595م، وكان هذا إيذانا باستكمال المجال الذي أضاف إليه أبو المحاسن مسجدا لتكتمل البنية العمرانية لمؤسسة علمية تربوية أراد لها مؤسسها أن تسهم في نشر العلم والصلاح وثقافة العمران في المجال الفاسي، وهنا نجد أنفسنا مرة أخرى إزاء عملية بناء: معماري وعلمي وتربوي واجتماعي، ولا شك أن الأدوار السياسية التي قامت بها الزاوية الفاسية منذ عهد المؤسس سيدي أبي المحاسن كانت تتويجا لهذا التجذر التي انبثق في الظاهر من لقاء رجلين: عالم ومجذوب لكنه يخفي مسارا علميا وصوفيا وعمرانيا تبلور على مدى قرون ونضج وبدت ملامحه واضحة في المدرسة الجزولية، مع رافد زروقي لا يقل أهمية..
ونختم هذه المقالة بالمآل الذي آلت إليه الزاوية الفاسية باعتبارها “حلقة جديدة في التصوف الشاذلي، فقد جمعت بين الأسانيد الجزولية والزروقية، وبين مستويات مخاطبة النخبة، وخدمة العوام” حسب نفيسة الذهبي، وأن الشيخ أبي المحاسن أضاف إلى هذا السند العالي من تجربته الشخصية ومن خبرته العلمية والصوفية ما جعل الطريقة الفاسية تكتسي بعض التميز.. وهو تميز سيظهر أيضا في خلفاء أبي المحاسن على رأسهم أبو زيد عبد الرحمن وعبد القادر الفاسي اللذان أثرا في تطور العلم بالمغرب بشكل لا يقبل الجدل..
توفي أبو المحاسن الفاسي ليلة الأحد 18 ربيع الأول سنة 1013هـ/ 1604م، وهي نفس السنة التي توفي فيها الشيخ سيدي عبد الله بن حسون، ودفن بمقبرة باب الفتوح في فاس وضريحه معروفٌ مشهور، رحم الله أبا المحاسن الفاسي وجازاه عن القصر الكبير وفاس والمغرب خيرا، والله الموفق للخير والمعين عليه…
أرسل تعليق