أبو العباس الجراوي التادلي
استكمالا لما كنت كتبته حول بعض الأعلام الأدباء الذين عاشوا أيام الدولة الموحدية كأبي المطرِّف بن عَميرة، وأبي جعفر بن عطية وابن دِحية الكلبي، نتعرف في هذه المقالة على أديب وشاعر كبير عاصر أهم ملوك الدولة الموحدية، وأرخ بشعره للتطور الفكري والسياسي لهذه الدولة العظيمة. يتعلق الأمر بالأديب الشاعر أبي العباس أحمد الجراوي التادلي…
يعرف الأستاذ حسن جلاب في كتابه: “الدولة الموحدية، أثر العقيدة في الأدب”، ط2، 1985 أبا العباس الجراوي بقوله:
هو أبو العباس أحمد بن عبد السلام الجراوي عاش بين 528 و609هـ، بربري من قبيلة جراوة، من أحد أفخاذها بني غفجوم؛ كانت منازلهم بتادلا، وقد تسببت له في كثير من المتاعب بسبب ماضيها، ذلك أنها كانت قد تهودت قبل الإسلام، فلم يستطع أحد من الشعراء الذين تهاجوا معه أن يفحمه سوى ذلك المجهول الذي عيّره بأصله اليهودي. فبذل الشاعر مجهودا لمنع تسرب الهجاء إلى الناس دون أن يفلح، فلا عجب إذا وجدناه يهجو بعض خصومه، المنتسبين إلى بني غفجوم، ويهجو معه قبيلته.. ومع انتسابه إلى هذه القبيلة، ووضوح اسمها: جراوة؛ فإن المؤرخين وكتاب التراجم حرفوا هذا الاسم، فسموه القراوي والقوارئي والقرائي والكورائي والكواري”..
يضيف الأستاذ حسن جلاب أن أبا العباس الجراوي كان شخصية متميزة خَلقا؛ فقد كان ضخما عظيم الهيكل لا يطيق الوقوف الطويل، نستشف ذلك من موقفه من أبي حفص الأغماتي عندما دعا الحاضرين أثناء إلقاء قصيدة في مدح يوسف بن عبد المؤمن الموحدي إلى الوقوف تعظيما للخليفة.. أما من حيث الخُلق، فقد كان الجراوي هجّاء، وقد حاول المحافظة على مكانته في البلاط الموحدي في بيئة تعج بالشعراء وذوي المواهب من المغرب والأندلس، كثير منهم في مستوى شاعرنا أو أشعر منه كالأغماتي وابن مجبر وابن سيد وابن حربون..
ويفيدنا الأستاذ جلاب أن ثقافة الجراوي كانت دينية وأدبية، فقد درس بمراكش وفاس والأندلس وتلقى ثقافة العصر المتمثلة في علوم القرآن والعلوم الدينية واللغوية، وكان من حظه أن أحد شيوخه بالأندلس هو الشاعر أحمد بن سيد الكناني (502- 578هـ). وقد أبدى أبو العباس الجراوي اهتماما بالفلسفة فكان من جملة الذين نقم عليهم يعقوب المنصور عندما دفع إلى امتحان الفلاسفة دفعا، ورضي عنه فيما بعد..
أما العلامة سيدي محمد المنوني –رحمه الله- فيقول في كتابه “العلوم والآداب والفنون على عهد الموحدين” عن صاحبنا الجراوي: “عالم بالآداب، نهاية في حفظ الأشعار القديمة والمحدثة، بليغ اللسان، شاعر مفلق، مداح هجاء، حاضر البادرة، وكان أيضا يلقب بشاعر الخلافة، وهو الذي اختير لمجالسة الأديب عبد الرحمن بن منقد لما ورد المغرب سفيرا عن صلاح الدين الأيوبي إلى يعقوب المنصور الموحدي، وكان يقول آخر عمره: تعسا لطول العمر، الذي أخرني لمعاشرة هؤلاء الأنذال، وعهدي بالخليفة عبد المؤمن يقول لي في جبل الفتح: يا أبا العباس إننا نباهي بك أهل الأندلس..”.
توجد ترجمة أبي العباس الجراوي في “تكملة” ابن الأبّار، وفي “وفيات” ابن خلكان، وذكره صفوان ابن إدريس التجيبي في “زاد المسافر وغرة محيا الأدب السافر”، وأحمد المقري في “النفح” وفي “الأزهار”. وكان لا يعرف من شعر الجراوي إلا الأبيات التالية: بيتان على اللام المفتوحة في يوسف بن عبد المؤمن، وبيتان في فاس، قافيتهما ياء مفتوحة، وقطعة سداسية ميمية في الهجو، وبيتان على الراء قالهما بتونس، وبيت على النون يمدح به خليفته، وبيتان على الضاد وردا في “البستان في ذكر الأولياء والعلماء بتلمسان” لابن مريم؛ يجوز أن يكونا له، مجموع هذه الأبيات ثلاثة عشر أو خمسة عشر.. هذا ما حققه العلامة المنوني في “العلوم والآداب والفنون على عهد الموحدين”..
ويفيدنا العلامة المنوني –رحمه الله- بوجود نوع من التطابق بين الأدب والسياسة في عصر الموحدين، وهذا استنتاج علمي غاية في الأهمية يدخل في صميم “النظر الأدبي”، ويعلن المنوني أن المغرب عرف في فترة الدولة الموحدية أدبا مغربيا أصيلا تميز بالإتقان والإبداع، وقد ساهمت البيئة السياسية الملائمة في ازدهار صناعة الشعر، يقول محمد المنوني في “العلوم والآداب والفنون على عهد الموحدين، ط 2، 1977): “ولقد سرى الاعتناء بالأدب من الملوك للأمة، والناس على دين ملوكهم، فاهتموا بسائر مواضيع الأدب حفظا ودرسا”. ويرى المنوني أن الثقافة خلال العصر الموحدي تأثرت بطبيعة الدولة المتميزة بسيادة التجديد وأخلاق العظمة، يقول-رحمه الله في كتابه عن الموحدين: “ظهر أثر عظمة الدولة في أدب هذه الحقبة فوجد شعراء عباقرة متفننون تناولوا أكثر أبواب الشعر العربي، ونبغ من بينهم أفراد مكثارون طويلو النفس، جمعت لهم دواوين ضمت آثارهم، كما ظهرت مؤلفات أدبية قيمة”..
يضيف محمد المنوني: “ولما طبع زاد المسافر ظهرت به أربعة عشر بيتا أخرى للجراوي، بيتان من قصيدة نونية في هجو الصابوني الذي صلب، وبيتان من قصيدة أخرى نونية، في الهجو أيضا، وبيتان أيضا (فائية) في الموضوع، وقطعة (نونية) تشتمل على ستة أبيات مما وقع له مع أحد المبتذلين، وبيتان (دالية) وقع بهما لشاعر استجداه بقصيدة، كذلك ظهرت كمية مهمة من شعره أوردها ابن عِذاري في البيان المعرب. وابن عذاري يورد شعر صاحبنا الجراوي بمناسبة الحوادث التي يتعرض لها، وكله في المدح، وأكثره يتعلق بيعقوب المنصور، وهو يتكون من خمس قصائد وأربع مقطوعات وأبيات، ومجموعه أربعون ومائة بيت، فإذا أضيف إلى الأبيات الثلاثة عشر، وإلى أربعة عشر بيتا في زاد المسافر، يكون مجموع ما نعرف الآن من شعر أبي العباس الجراوي سبعة وستين ومائة بيت..” (المنوني: العلوم والآداب والفنون على عهد الموحدين).
وينبغي أن يضاف لكل ما تقدم البيتان أو الثلاثة أبيات الواردة عرضا أثناء مقدمة الحماسة المتأخرة للجراوي، إن لم تكن ضمن الأشعار الآنفة الذكر، وهكذا ينبغي أن يضاف لذلك ثلاثة أبيات (رائية) في الهجو، وقد وردت في “أزهار الرياض” للمقري ضمن ترجمة أبي حفص عمر…
وقد تتبع العلامة المنوني في “العلوم والآداب والفنون على عهد الموحدين” نقلا عن “زاد المسافر”: بعض أشعار الجراوي، وهي ذات قيمة أدبية وتاريخية، منها قوله بشأن أحد المبتذلين:
يـــا سيدي جــاءتك رقعـــة شاعـــــــر شهدت لــــه الشعـــــراء بالإحســــان
لـــــــو أدرك النعمــــــــان في أيامـــــه لرأى لـــــه فضلا علــــى الذبيــــــاني
أو كـــان يومــــا في بنـي حمدان لــم تبهــج بأحمدهـــــا بنــــو حمــــــــدان
لكنــــــه قــــــد أدركتــــــه حرقــــــــــة أدبيـــــة مزجتــــــــه بــالعبــــــــــــدان
فغـــــــــذا مززة كل مصفــــوع القفــــا صفــــــر اليديـــــــــن ممـــــزق الأردان
فإذا نظــــــرت إلــى قفــــاه حسبتـــه نبتت عليــــــه شقـــــائق النعمــــــان
وقال الجراوي في ذم رجل اسمه خلوف:
زعمــــــوا يــــــا خلـــــوف أنك خلـف صدقـــــــوا فيك من خلـــــــوف ألوف
ولهــذا دعـــــــوك بالجمــــــــــع فردا جمــــــع خلـف بلا خلاف خلـــــــوف
وقوله في أبي حفص الأغماتي:
نبغــت عمــــرة بنت ابـن عمـــــــــر هــــذه فلتعجبـــــوا أم العبــــــــــــر
قـــل لهـــــــــا عنـــي إذا لاقيتهـــــا قولــــــة تترك فـــــي الصخـــر أثـــر
هبك كالخنســــاء فــي أشعــارهــا أو كليلـــى هـــــل تجــــارين الذكـر
وقوله في قبيلته بني غفجوم بتادلة:
يـــا ابن السبيــل إذا نزلت بتــادلا لا تنـزلــــن علــى بنــي غفجـــوم
أرض أغــــار بهـــا العـدو فلن ترى إلا مجــــاوبـة الصــــدى للبــــــــوم
قـــوم طووا ذكــر السماحة بينهم لكنهــــم نشــــروا لــــواء اللــــــؤم
لا يملكـــون إذا استبيح حريمهــم إلا الصيــــاح بدعـــــوة المظلـــــوم
لا حــظ فـــي أموالهـــم ونوالهـــم للسائــــل العافـــــي ولا المحـروم
وتجدر الإشارة فيما يتعلق بموضوع الهجاء والذم إبان الدولة الموحدية، إلى أن محمد المنوني سد فراغا في هذا الباب بإيراده لتسعة عشر بيتا، عشرة أبيات لصاحبنا الجراوي من ثلاث قصائد مختلفة؛ وتسعة أبيات للشاعر الداهية ابن حبوس، وتجدر الإشارة إلى أن هذا الموضوع لم يحظ باهتمام كبير من طرف العلامة عبد الله كنون في “نبوغه”، مما يزيد ما تفضل به أستاذنا المنوني أصالة وإفادة.. رحمهما الله وجازاهما عن المغرب خيرا.
ويتتبع الأستاذ حسن جلاب في كتابه “الدولة الموحدية: أثر العقيدة في الأدب”، ط2، 1985″، المسيرة الأدبية والسياسية للجراوي في بلاط الموحدين، ويحلل فضيلته بعض الإنتاج الشعري للجراوي في علاقته بتطور الأحداث السياسية في ظل الموحدين، وعلاقة ذلك بالحالة الثقافية والاجتماعية، ومنه ندرك أن المادة الشعرية الأصيلة تعتبر من مصادر التأريخ، ويمكن توظيفها في دراسات سوسيولوجية وأنثربولوجية من أجل استكناه العناصر الثقافية للمجتمع المدروس… يقول حسن جلاب: و”الثابت أن أول اتصال (للجراوي) بعبد المؤمن (بن علي الكومي) كان سنة 553هـ عندما مدحه برائية في استعمال العنصر العربي، فلم يدرك كزميله ابن حبوس الدولة في مرحلة البداية، وإنما التحق بها بعدما استقرت وأحكمت قبضتها على المغرب، إلا أنه شهد مع عبد المؤمن حروب الأندلس وإفريقية وكان في بداية حياته الشعرية.. ورغم معاصرة صاحبنا الجراوي للشاعر الداهية ابن حبوس الفاسي؛ فإنه استطاع أن ينتزع من عبد المؤمن تلك العبارة التي كانت تملؤه فخرا وزهوا حتى عندما تجاوزته الأحداث وشاخ في عهد الناصر، فكان يتلذذ بترديدها متذكرا مجده الغابر، وهي: يا أبا العباس إنا نباهي بك أهل الأندلس”، ولم تتعد الفترة التي قضاها أبو العباس الجراوي إلى جانب عبد المؤمن خمس سنوات من 553 إلى 558هـ..”.
يضيف الأستاذ حسن جلاب متتبعا مسار أديبنا الجراوي مع الدولة الموحدية فيقول: “ويبدو أن مصير الشاعر قد حدد مع يوسف (558-580هـ) فقد اضطر مع الخليفة العالم أن يجري بعض التغييرات على مسار شعره وينقص من تلك المبالغات والتهويلات التي كان عبد المؤمن يدفع إليها الشعراء.. وأن “هذه القدرة على مسايرة الأحداث هي التي دعمت مكانته في البلاط الجديد، وجعلته بلا منازع شاعر الخلافة الموحدية وكان عليه أن يستمر في مواجهة شعراء الأندلس؛ لأن أبا يعقوب قضى سنوات عديدة في محاربته للأسبان والثوار، فكان يقرب شعراءها ويكرمهم ويتقبل مديحهم، ولابن حربون وحده فيه أزيد من عشر قصائد”..
مع ظهور يعقوب المنصور (580-595هـ) زال ذلك الخوف الذي رافق الشاعر عند تولية يوسف بن عبد المؤمن… ولما احتيج لمن يجالس أبا الحارث عبد الرحمن بن منقد رسول صلاح الدين الأيوبي إلى المنصور كان الجراوي هو الشخصية المناسبة للمبعوث الاستثنائي ومكانته السياسية والعلمية.. ومع الخليفة المنصور عاد الجراوي إلى أساليب المبالغة والتهويل خصوصا وأن العصر عرف أحداثا جساما استدعت ذلك، أهمها معارك الميورقيين (بنو غانية) ومعركة الأرك الشهيرة.. فليلاحظ القارئ الكريم هنا تطور الأسلوب الشعري بموازاة تطور الأحداث السياسية، وهو ما يعطي لهذا الشعر معقوليته، ويكسبه المعنى، ويضعه في سياقه كشاهد على العصر..
وفي عمل تحليلي جيد قام الأستاذ حسن جلاب في كتابه “الدولة الموحدية، أثر العقيدة في الأدب” لنص شعري للجراوي، رابطا إياه بسياقه وظروف إنتاجه، بما يمكن اعتباره عملا في النقد الأدبي العالي.. وخلص حسن جلاب إلى أن نص الجراوي ركز على موضوع الخلافة التي كانت مهددة نظرا لظروف داخلية وخارجية، بما يعني ارتباط هذا الشعر بقضية مركزية هي “مسألة الخلافة”..
قال أبو العباس الجراوي في بائيته، مادحا يعقوب المنصور الموحدي:
لـــــواؤُك منصـــــورٌ وسعــــدك غـــــالــــــــبٌ وحــزبـــك للأعـــــداء عنــــك مُحـــــــــاربُ
لــقـــد ثكلـــــــــت أمَّ المنـــــــــاوي وغــرَّرَت مبـــــــــادئُ من أحوالِــــــــه وعــواقــــــبُ
سمــــــا لاستــــراقِ السمعِ من وهْداتِــــــه ودون سمــــــــاءِ المُلْــكِ شهبٌ ثواقـــــبُ
تلاقـــــى عليـــــــه البَــــرُّ والبحــــر ترتمـي سَفيـــــنٌ إلــــى استئصالـــــه وكتـــــائبُ
غريــــقٌ بغـــرقــــــــى مِثلِـــــــه متـــمسّكٌ ومـــــوجُ المَنـايــــــــا مثْلُهُــــم متراكــــــبُ
هـــــوت بهم الأطمــــــاع فـــــي هُوّةِ الرّدى وغرتهــــم جهـــــلا بُــــــروقٌ خوالــــــــــبُ
أطــــــــــاعـــــوا غَويّا لم تقيـــده شرعــــــةٌ ولـــــــــم تُرِهِ وجـــــــهَ الصواب التجــــــاربُ
مُغيــبُ وجــــه الـــرأي والوجـــــــه حــــــائرٌ يُـــــرى حـــاضرا فـــي أمـــرهِ وهو غـــــائبُ
دعــــــاهم إلـــــى آجالهـــــم فتهافتــــــــوا كمــــــا جَمَع الأعـــــوادَ للنــــــار حــــاطـبُ
تصَامَـــــم عـــــن وعــــدِ الزّمـــان بقلبـــــه وأعــرض عـــن وجـــــهِ الهـدى وهــو لاحِبُ
تخيـــــــــل أن النــــــــاصريـــــــــــــــــةَ دارُه يُطـــــــاعن عن ساحاتهـــــا ويضـــــــــارب
وفــــــي الغـيبِ من إنجادِ طائفةِ الهُــــــدى ونصــــــر أميـــــــرِ المؤمنيــــــــن غــــرائبُ
هـــــــو الأمــــــر أمــــرُ اللَهِ لـيس يَـفوتُــــهُ مُنـــــــــاوٍ ولا يـنـــــأى عليــــه مـنـــــاصـب
ومــــــــــــا هـارِبٌ مـنهُ ولو بَلَغَ الـسُّهــــــــا بِـنـــــــــــاجٍ وهـل ينجو مـن اللَه هــــــارب
بناصرِهــــــــا المنصـــــــورِ تــاهت خِـلافَـــةٌ تُـناسِبُهُ فـي حُـسنِــــــــهِ ويـنـــــــــاسِـبُ
إمــــــامٌ لَــــــــهُ فَضلٌ عـلى الخلـقِ باهِـــرٌ ومَرتَبَةٌ تنحــــــطُّ عـنهـــــــــــا الـــمــــــرات
مـنـاقِــبُــــــــــهُ مـثلُ الـكواكِــــــبِ كـثـــــرةً ونُــــــورا ألا الـلَــــــــــهِ تلــكَ الـمنـــــــاقِـبُ
هـي الدوحةُ الشماءُ في الأرضِ أصلُها وقد زاحَمَـــــت مِـنهـــــا الـسمــــــــاءَ الذوائـبُ
لــــــــــــــــه نسـبةٌ قـيسيـــــــةٌ قدسيــــةٌ تُـقِرُّ لهــــــــا بالمعـــــلـــــــــواتِ مُــواهِــبُ
بقـيــتــــــم أميـرَ المؤمنـيـــــــنَ وسعدُكُــم تُـهَزُّ قناً منـــــــــــــــهُ وتنضـــــــى قـواضبُ
وقد أشار الأستاذ جلاب في تحليله لهذا النص الشعري إلى أن “الفترة التي قيلت فيها القصيدة خطيرة جدا، مرت فيها الخلافة الموحدية بتجربة صعبة، مردها إلى: مقتل الخليفة يوسف بن عبد المؤمن فجأة بالأندلس في خضم الصراع مع الأسبان؛ وظهور تمردات داخلية ومطامع سياسية لبعض أفراد الأسرة الحاكمة كأبي حفص عمر أخ المنصور، وسليمان عمه؛ وامتحان شيوخ الموحدين للخليفة الجديد على عادتهم مع كل خليفة. لذلك شغل موضوع الخلافة الناس، وعلى رأسهم “شاعر الخلافة الموحدية”، لهذا بنى القصيدة حول “إشكالية الخلافة” خاصة وأنها أول قصيدة يمدح بها الخليفة الجديد”..
ويخلص الأستاذ جلاب إلى أن شاعرنا الكبير “أهمل في آخر حكم المنصور وبعد إعلانه عن عزمه على تغيير المذهب، ودعوته الشعراء إلى استعمال بحور خفيفة وأساليب بعيدة عن المبالغات التي كان الشعراء يرددونها. ولعل عامل السن حال دون تكيف الجراوي مع التوجيهات الجديدة، فاستمر تهميشه حتى بعد تولي الناصر، وقد وجدت وثيقة شعرية تثبت ذلك، يطلب فيها من الخليفة الجديد أن يعيده إلى مكانته التي كان عليها مع والده وجده:
فـــــارقت مـــا قد كنت فيه كأنـه طيف رأتـــه العين فــي الأحلام
فعسـى أرى وجه الرضا فلطالمـا أملــــت رؤيتــــه مــع الأعـــوام
يعلق الأستاذ جلاب قائلا: “وهي نغمة جديدة لم نتصور أن نجدها عند الجراوي الهجّاء المقدع السليط اللسان، إنها الشيخوخة بما تفرضه على الإنسان من نقص في العطاء والحركة، فرغم إجهاده النفس في العطاء، ومثابرته على مدح الناصر في المناسبات، لم يدرك الشاعر مكانته، ولم تسعفه ظروفه الصحية لذلك حتى لو أدركها..
يقول الأستاذ جلاب متحدثا عن الأيام الأخيرة لأبي العباس الجراوي: “لقد حمل نفسه إلى مرافقة الناصر إلى الأندلس سنة 608هـ لتخليد معركته المقبلة مع الأسبان. ومن يدري فقد تكون آخر روائعه الشعرية؟ إلا أن المرض لم يمهله إلى حين انتهاء المعركة ولعل ذلك من حسن حظه، وهو الذي شهد الانتصارات مع باقي الخلفاء، فلم يشهد أثقل هزيمة في تاريخ الموحدين وهي معركة العِقاب.. رحم الله أبا العباس الجراوي، والله الموفق للخير والمعين عليه..
أرسل تعليق