أبو الربيع سليمان الحوات.. (2)
ترك أبو الربيع سليمان الحوات عدة تآليف في مختلف الفنون نذكر منها في الآداب: شعره العام، وقد تطرق فيه إلى جل الأغراض التقليدية، وله ديوان الأمداح السليمانية، حققه الفاضل عبد الحق الحيمر نفس محقق ثمرة أنسي في التعريف بنفسي، وقد ضمنه أمداحه في السلطان المولى سليمان، وله جمع وتقديم ديوان أبي العباس أحمد عبد العزيز الهلالي السجلماسي، قام بتحقيقه الأستاذ عبد الله الهمس بجامعة فاس، وقد ضمن مقدمته مجموعة من الآراء النقدية في الشعر مع التعريف بصاحبه، وله خطبتان في الحث على الجهاد توجد نسخة خطية منها في مسجلاته ومراسلاته الأدبية توجد نسخة منها في المكتبة الزيدانية بمكناس، وفي الخزانة الحسنية بالرباط.
وله مقامة في الحساب، ورسائل: منها رسالة على لسان السلطان المولى سليمان موجه إلى الأمير سعود بن عبد العزيز يحثه فيها على الوقوف عند حدود الكتاب والسنة، ومنها رسالة وجهها إلى المؤرخ أبي القاسم الزياني في شأن مؤلفاته التاريخية التي بعثها إليه قصد إبداء رأيه فيها وهي مطبوعة في كتاب الترجمانة الكبرى في أخبار المعمور برا وبحرا..
ولسليمان الحوات في مجال التاريخ: البدور الضاوية في مناقب أهل الزاوية الدلائية، وموضوع هذا الكتاب هو التأريخ لهل الزاوية الدلائية مع ذكر مناقبهم وما قاموا به من أعمال..
وله كتاب الروضة المقصودة والحلل الممدودة في مآثر بني سودة. مطبوع بتحقيق الفاضل عبد العزيز تيلاني، وقد ألفه الحوات برسم شيخه أبي عبد الله محمد التاودي بن سودة، وله السر الظاهر فيمن أحرز بفاس الشرف الباهر، من أعقاب الشيخ عبد القادر، وقد طبع هذا الكتاب طبعة حجرية بفاس (سنة 1351هـ).
وله قرة العيون من الشرفاء القاطنين بحومة العيون، وهو تعريف بالشرفاء الدباغيين؛ وله أيضا المسك الأريج في نسب أولاد الدريج، وله تأليف في ترجمة شيخه أبي عبد الله محمد بن الحسن بناني، توجد نسخة خطية منه بخزانة محمد بناني بفاس، وتأليف في الناصريين أهل زاوية تامجروت بدرعة، وهو غير تأليف والده فيهم المسمى تحفة المعاصر في بعض صالحي تلامذة أبي عبد الله محمد ابن ناصر، وله تقييد في فضائل السلطان مولاي سليمان، وتقييد عن علاقة المغرب بالجزائر.
وله رسالة تاريخية جوابية حول من تولى وظائف الكعبة المكرمة منذ إسماعيل عليه السلام إلى عصر المؤلف، وله فهرسه المسمى ثمرة أنسي في التعريف بنفسي، وهو الفهرس الذي حققه الفاضل عبد الحق الحيمر.
كتب سليمان الحوات في الفقه كذلك، نذكر من كتاباته الفقهية: تغيير المنكر فيمن زعم حرمة السكر. وهو رسالة جوابية تقع في تسع ورقات ضمن مخطوطة الخزانة الحسنية بالرباط 12450، وله: حكم الحضور في مجالس الغناء والخمور، والباعث على تأليفه قوله: “لما رأيت الكثير من الفقهاء الأعلام يحضرون مجالس الغناء والرباب والطار، وأشعار الخمر والمرد، وغير ذلك مما للفساق فيه أوطار، وإذا سئلوا عنه قالوا هو مختلف فيه إما جهلا وعمها، وإما لبسا للحق بالباطل خفية وشبها، أردت أن أؤلف تأليفا أبين فيه ما هو متفق على حرمته، ومختلف فيه حتى ينماز الفرق بينهما لكل نبيه، ولا يغتر بقول جاهل أو متجاهل في أمر دينه متساهل“. ولا يخفى أن هذا موقف معتدل من هذا الفاضل، فهو لا يرضى لأهل العلم مثل هذه المجالس التي تضعف الهمم، وتبعد عن معاني الكونية والإنسانية، أما إذا كان الطرب طربا حقيقيا، وقف قواعد الفن، والموسيقى، والكلمة الطيبة فهذا من اهتمامات أهل العلم على مر العصور، والطريف أن الحوات نفسه صاحب هذه “الفتوى” له تآليف في علم الموسيقى مثل كتاب: كشف القناع عن وجه تأثير الطبوع في الطباع: وهو عبارة عن أرجوزة في طبوع الموسيقى الأندلسية في ستة وخمسين بيتا حققها الأستاذ أحمد العراقي اعتمادا على نسخة خطية توجد بالخزانة الحسنية بالرباط تحت رقم: 4229، ونسخة الأستاذ المرحوم عبد السلام بن سودة بفاس، وقد نشرها بمجلة المناهل المغربية (عدد: 27 ص: 319 – 337). كما استفدناه من مقدمة تحقيق “ثمرة أنسي” للمحقق عبد الحق الحيمر.. فليرجع إلى مقدمة تحقيق “ثمرة أنسي” للوقوف بتفصيل على مؤلفات الحوات وأمكنة وجود مخطوطاتها، والمطبوع منها، وإنما قصدنا هنا الاختصار بقصد إبراز تفوق هذا العالم الفاضل وامتلاكه ناصية الكتابة. كما نريد أن نربط هذا البعد العلمي بالبعد الإنساني الذي سنذكر بعض جوانبه فيما بقي من المقالة.. والحال أنني استفدت من مقدمة “ثمرة أنسي” كثيرا في تلخيص بعض جوانب البعد الإنساني في حياة صاحبنا سليمان الحوات..
لقد كانت تربط سليمان الحوات بأعلام عصره علاقات صداقة متينة، ومن هؤلاء الأعلام العلامة الأديب الشهير حمدون ابن الحاج (تـ 1232)، فقد كانا على مودة متبادلة واتصال دائم تجري بينهما المكاتبات نظما ونثرا، من ذلك ما خاطبه الحوات في ختام رسالة:
إذا عرتك مــــن الأيــــام نائــبة فلا يخلــص منها غير حمــدون
إن من ذو الود يوما قبــل صلته فحبله أبــــــدا ليـــس بممنون
على سجــــيته من التحية ما يقوم من حقه عني بمـسـنون
فأجابه حمدون بقوله:
أبا الربيع سليمـــــان أتيت بما لم يأت يوما بمثـله ابن عبدون
رســـالة نبأت بصـــفو ودك لي ما شابهتها رسالة ابــن زيدون
شيطان فكرك غواص على درر أقر بالعجز عنها فكر حمــــدون
لازلت مفترش الجزاء مـــرتفعا ومن يعاديك في المنازل الدون
ومنهم العلامة الأديب أبو عبد الله محمد بن الطيب سكيرج (تـ 1194هـ)، فقد نزل عليه المؤلف ضيفا صحبة جمع من أعلام فاس حيث قضوا معه أياما تبادلوا أثناءها ما رق وطاب من طاب صنوف الآداب، ويحدثنا الحوات عن ذلك، فيقول: “فنزلنا مكناسة الزيتون على روض البلاغة المزهر الأحفل، الكاتب الأديب الأنبل، العالم الأكمل أبي عبد الله سكيرج الفاسي وصل الله عنايته، فألفيناه في مجلس منادمته مع خاصته من أحبته.. فقال:
لما أباح النوى راح الفـــراق وقد ركبت ظهر الفيافي منضيا تعبي
يممت ربعا به للحـــسن معترك وفيه روض لأهــل الفضل والأدب
ثم قال أجز، فأجزت بقولي:
وكيف لا، ودلـــيل الحب أرشـــدني والحب يرشد أحـــيانا إلــــى الأدب
فكان لي موقف عـــــلى الحبور به في مظهر الأنس بين اللهو والطرب
حيث محـــــــــيا “أبي زيد” ورنتـــه يستبعــــــدان قريب الهم والوصب
فلما وصلت إلى هنا استعادني إنشادها، وهو مقبل علي يهتز إعجابا وطربا، ثم تنحى عن سدته جملة، وأجلسني فيه متفردا بعدما كنت مشاركه في جهة منه فقط.. فمكثنا على ذلك أياما، بين تناشد الأشعار، وتجاوب الأوتار، وكؤوس حلال الشراب علينا تدور، من راحات حسان كالبدور، لم نستيقظ من سنة المسرة إلا بعد أن مضت من الشهر عشرة (..) ورب المنزل المذكور، وعلم الإجلال المنشور، حملته الأريحية على المبالغة في الإكرام، بالتردد علينا في كل برهة بموائد الطعام، مختلفة الأجناس، تستلذ مضغها الأضراس إلى أن انفصلنا كل في وجهته سعيد، وربك الفعال لما يريد..
ويفيدنا المحقق عبد الحق الحيمر في مقدمة “ثمرة أنسي في التعريف بنفسي” بإثارته لموقف الحوات المشرف وتدخله من أجل إطلاق سراح صاحبه العلامة الصوفي أحمد بن عجيبة (تـ 1224هـ) حين أسر في تطوان بإيعاز من الشيخ علي الريسوني وغيره، فخاطبه الحوات بقصيدة معاتبا وناصحا جاء فيها:
أبا حســــن كــــــــن مثل والدك الذي تغيب في ســـكر الشهود عن الحس
وإلا فاصلح مـــــنك بالـــــــزهد فاسدا وكن واثقا بالـــــموت يصبح أو يمسي
ولا تعترض مــــا لــــست تعلم حكمه ودع عنك حظ النفس والرجم بالحدس
وأنصف ولا تجـــــحد إذا كـــــنت عالما بعلم غد كعــــــلم مــــــــا مر بالأمس
فما بالكم تســـــــعون سعي معارض لطائفة التجريد فـــــي الضرب والحس
وكيــف يهين ابنــــي عجـــيبة مسلم وعلمهما بالله أجــلى مـــن الشـمس
كأنك لم تعــــــرف حــــقيقة ســرهـم ولم تعتـــــــرف منها بنوع ولا جــــنس
هم القوم كـــــفوا نفسهــم ولسانهم ومن يستطع كف اللــــسان أو النفس
تقدمت السن بالحوات وأخذ المرض يقترب منه أولا في بصره فالتجأ إلى الأولياء بعد أن عز الدواء وقصد ضريح سيدي أبي غالب متوسلا به في شفاء بصره، وحين بلغ الستين وشعر بضعفه، ودنو أجله أخذ يطرق باب التوبة راجيا من الله أن يتجاوز عن سيئاته ويسلك به سبيل السلامة.
ولما حل الوباء بمدينة فاس تيقن الحوات أن الرحيل قد آن أوانه فبادر إلى شراء مقدار قبره وهيأه استعدادا للانتقال، ويحدثنا ذلك فيقول: “لما فشا أمر هذا الطاعون بحضرة فاس الإدريسية اشتريت قدر قبر بداخل قبة الشيخ الولي أبي عبد الله التاودي بخارج باب عجيسة فحفرته وحصنته بصندوق من خشب ولحدته وعلمته بمرمرة صغرى وأعددته لدفني إذا قضى الله بوفاتي، وهو الخامس من الصف الذي يمنه المحراب.. “.
وكنت أنشدت أبياتا جعلتها داخل قبري هذا لما حفرته وهي:
هذه حـــفرة أعدت لــــــدفني في جوار الخيار حــــين الوفـاة
وعساها تكون لــي خير روض من رياض النعيـــم في الجنات
رب عفوا على سليمان مـن لا زال يدعي في الناس بالحوات
ولئن كان مسرفا أنت تمــــحو رحمة منك أعظم الســــــيئات
لقد جئت بالـــــرسول شفـيعا يوم لا غــــيره لــــــذي الزلات
وعليه أزكـــــــى الصلاة دوامـا وعلى صحبه الكـــــرام الهـداة
توفي سليمان الحوات بفاس يوم (الثلاثاء 19 صفر عام 1231هـ/1816م) وعمره اثنتان وسبعون سنة إلا شهرا ودفن بقبره الذي أعده بنفسه، وأرخ صاحبه العلامة الأديب حمدون ابن الحاج وفاته عن طريق حساب الجمل بعام، بشراي جاءوا به، وضمن ذلك قوله:
هذا ضريح أبي الربيع شمس ضحي لـــــه بيــــت نبـــــــــــــوة شــماريخ
قد قالت الأرض لــما ضـــمت أعظمه بشراي جاءوا بــــه، وذاك تـــــاريـــخ
رحم الله سليمان الحوات وجازاه عن المغرب خيرا، والله الموفق للخير والمعين عليه.
أرسل تعليق