أبو الحسن علي اليوسي
كم هو رائع أن تعبر شخصية ما عن عصر بأكمله، لاسيما إذا كانت هذه الشخصية تمتاز بجمع بين السمو العلمي والفكري من جهة، والانخراط في ثقافة العصر من جهة أخرى.. ينطبق هذا الأمر -في نظري- على العلامة أبي الحسن علي اليوسي الذي قال عنه محمد الصغير الإفراني في “صفوة من انتشر” أنه قد “أقبلت عليه طلبة العلم في جامع القرويين وتزاحمت على بابه الركب، ووقع له من الإقبال ما لم يعهد لغيره”.. ويبدو من خلال كتاب “المحاضرات” لليوسي حِرص الرجل على إبراز أكبر قدر ممكن من عناصر ثقافة عصره، وهو ما يتضح من خلال المقدمة التي يقول فيها: “وإني قد اتفقت لي سفرة بان بها عني الأهل شغلاً وتأنيساً، وزايلني العلم تصنيفاً وتدريساً، فأخذت أرسم في هذا المجموع بعض ما حضر في الوطاب، مما أحال فيه أحان له إرطاب، وسميته المحاضرات، ليوافق اسمه مسماه، ويتضح عند ذكره معناه، وفي المثل: “خير العلم ما حوضر به”[1].
وتختزل حياة اليوسي جانبا كبيرا من الواقع المغربي، فهو الإنسان الذي تمتع بوضع اعتباري مهم داخل مدينة فاس بالرغم من قدومه مما يطلق عليه اليوم “العالم القروي”، وهو الذي تمكن من امتلاك ناصية سلطة المعرفة العربية الإسلامية، وهو السياسي المتمرس، وهو مريد الزاوية الدلائية الكبير وأحد وجوهها البارزة، وهو الممثل الكبير للطريقة الناصرية، وأستاذ أساتذة المغرب، وإن مصداقية اليوسي وتمثيليته المعبرة عن عصره هي ما جعل السوسيولوجي الفرنسي جاك بيرك يؤلف كتاب “الحسن اليوسي، مشكلات الثقافة المغربية في القرن السابع عشر”، صدر بباريس أول مرة سنة 1958، وصدرت الطبعة الثانية منه سنة 2001م، عن مركز طارق بن زياد للدراسات والأبحاث، ليتوصل فيه إلى أن ملامح الشخصية العلمية والثقافية لليوسي يمكنها أن تمدنا بعناصر تحليلية حول المميزات الاجتماعية والثقافية لمغرب القرن السابع عشر.. وهو أيضا مغرب عبد القادر الفاسي، وعبد الرحمن الفاسي، وأبو سالم العياشي، وآخرون.. ولا شك أن هذا النوع من المقاربة -السوسيو أنثربولوجية- ينخرط في إطار تيار فكري يرى بأن من أهم مداخل استقصاء ملامح الشخصية الثقافية لمجتمع ما هو دراسة الوضع الاعتباري للعلماء داخل محيطهم الثقافي والاجتماعي ضمن جدلية العلم والعمران..
ولد الحسن اليوسي الإدراسني كما حلاه سيدي عبد الحي الكتاني في كتابه “فهرس الفهارس”، سنة 1631م في ملوية العليا، وتميزت سنواته الأولى التي قضاها فيها بفقدانه لوالدته، ففرغ كل طاقاته في الدراسة والتحصيل، وكان أول ما تعلمه القرآن والنحو وبعض المتون في مسجد القرية..
جاء في فهرس الفهارس لمحمد عبد الحي الكتاني: أبو علي الحسن بن محمد بن علي بن يوسف بن داوود ابن يدارسن اليوسي البوحديوي من آيت بوحدوا، هكذا لأبي التوفيق الدمنتي في فهرسته ولغيره بعد داوود بن حدوا بن أويس المعروف باليوسي اليدراسني، ومن العجيب أن المترجم له في محاضراته لما ذكر أنه ابن مسعود بن محمد بن علي بن يوسف قال: “وهو أبو القبيلة وهو عجيب؛ فإن جده يوسف هذا هو رابع الآباء. ومع قربه من زمنه تفرعت عنه خلائق، فإن قبيلته اليوم وقبله كبيرة وكثيرة جدا من أعظم قبائل المغرب..”[2].
أما أسرته فيحدثنا عنها اليوسي بشيء من التفصيل فيذكر أن والده سيدي مسعود “كان رجلا أميا ولكنه كان رجلا متدينا مخالطا لأهل الخير محبا للصالحين زوارا لهم، وكان أعطي الرؤيا الصالحة وأعطي عبارتها، فيرى الرؤيا ويعبرها لنفسه فتجيء كفلق الصبح”[3]. أما أمه فقد توفيت وهو لا يزال صغيرا فحرم حنانها.[4]، وكان لليوسي أخوان أميان أسن منه، وكانت له أخت لا ندري أكانت أكبر منه سنا أم أصغر، ومن أبناء عمه الأدباء الشعراء نذكر أبا سعيد عثمان بن علي اليوسي..[5].
طفولة في حضن الأطلس بطبيعته وثقافته، و يبدو من المفيد الإلماح إلى البيئة الجغرافية والحضارية التي شكلت منشأ أبي علي اليوسي الإدراسني المنتمي إلى قبيلة أيت يوسي بالأطلس المتوسط، وهي قبيلة تمتد إلى نواحي فاس وتافيلالت وصفرو وبولمان وميدلت، وكان اسم هذه القبيلة خلال القرن 17م أيت إدراسن، وهي قبيلة صنهاجية مثل قبيلتي أيت يافلمان وأيت أومالو قبيلة صاحبنا الداهية أبي القاسم الزَّياني، وتمتد جنوبا إلى الأطلس الكبير الشرقي وجبل العياشي، وكان أفرادها يمارسون الترحال كنشاط رئيس.
لم يتجه اليوسي في بداية التحصيل إلى مدينة فاس لطلب العلم كعادة كثير من علماء عصره ومنهم أستاذه الشيخ التطافي، بل إنه توجه إلى المناطق الجنوبية حسبما ورد في “مناقب الحضيكي”، وفي مراكش، حضر دروس القاضي الفقيه السكتاني، واتجه إلى تارودانت حيث إمارة تازروالت بإداوسملال “إليغ وتامنارت”، واشتغل اليوسي بالتدريس في تارودانت، غير أنه غادرها بعد مدة وجيزة في اتجاه تامكروت التي سيلقن بها الورد الناصري على يد الشيخ الفاضل محمد ابن ناصر الدرعي، كان ذلك سنة 1650م. في هذه السنة نفسها، سافر اليوسي إلى تافيلالت واشتغل فيها بالقضاء، ثم سافر بعد ذلك إلى دكالة ولازم أستاذه الكبير محمد بن إبراهيم الأشتوكي. والراجح أن اليوسي تابع خلال هذه الفترة دروس الصغير المنيار في جبل دمنات، وهكذا لما جال اليوسي في مناطق المغرب بحثا عن العلم والصلاح التحق أخيرا بالزاوية الدلائية ليبدأ مرحلة جديدة في مساره العلمي والإنساني، ويمكن أن نطلق على هذه الفترة من الحياة العلمية لليوسي مرحلة ما قبل الزاوية الدلائية.
بالزاوية الدلائية تعلق الحسن اليوسي بشيخه محمد ابن ناصر الدرعي، وحتى بعد مغادرته الزاوية الناصرية بتامكروت؛ فإنه كان يتردد عليها بين الحين والآخر، مرة حين ساهم في الإعداد لرحلة الحج، حيث رافق شيخه الدرعي إلى مدينة سجلماسة حيث نقطة التقاء القوافل المتوجهة إلى الحجاز. وبهذه الزاوية المباركة التقى اليوسي بأحمد بن محمد بن ناصر الدرعي، ابن الشيخ، الرحالة الشهير الذي قام بثلاث رحلات إلى المشرق..
بالزاوية الدلائية سيسطع نجم الحسن اليوسي وسيدرس عليه ثلة من علماء المغرب الكبار أمثال علي العكاري، مجدد العلم في الرباط.. وفي 12 ذي الحجة 1078 هـ خرج مولاي رشيد العلوي بالحركة للزاوية الدلائية البكرية من فاس الجديد ووقعت الهزيمة عليهم، فاستولى على زاويتهم وأمر بتدميرها. وكان الاستيلاء على الزاوية في 8 محرم 1079هـ؛ ولأنه لم يكن سوى طالب علم متواضع لا دخل له في المغامرة السياسية للدلائيين فقد سلم أبو الحسن اليوسي من السخط الذي لحق بكثير من شيوخه وزملائه الدلائيين. وفي فاس التي نقل إليه المولى الرشيد العلوي كبار علماء دلاء، وفي طليعتهم العلامة اليوسي، بحيث أنه في وقت وجيز تصدر هؤلاء العلماء القادمين من الزاوية الدلائية كراسي التدريس، وبدءوا ينافسون علماء الحاضرة الفاسية مما يدل على المستوى العلمي الرفيع الذي ميز هذه الزاوية العلمية التاريخية، واجتمع بفاس علماؤها الأصليون والوافدون الجدد من الزاوية الدلائية، فكان المجمع العلمي الفاسي يضم أمثال محمد بن أبي بكر الدلائي، ومحمد بن ناصر الدرعي وعبد القادر الفاسي وابن رحال المعداني ومحمد بن عبد السلام بناني وعبد الرحمان الفاسي وأبي سالم العياشي وصاحبنا أبي الحسن اليوسي..
مكث الحسن اليوسي بفاس من سنة 1668م إلى سنة 1673م. ومباشرة بعد وصوله إلى فاس بدأ يلقي دروسه بجامع القرويين المبارك، وكان السلطان المولى رشيد يتردد على دروسه حسبما ورد في “الاستقصا” للناصري. لكن قوة اليوسي، وعمق منهجه، وسعة اطلاعه خلقت له متاعب ضمن الأوساط العلمية الفاسية ولولا تدخل الأستاذ الكبير عبد القادر الفاسي لما كُفّ عنه الأذى..
بعد وفاة السلطان المولى الرشيد سيرحل أبو الحسن اليوسي إلى مدينة مراكش التي سيمكث فيها إلى سنة 1684م، والجدير بالذكر أن اليوسي أقام بحي المواسين حيث المسجد السعدي الشهير، وأسس فرعا للزاوية الناصرية بحي رياض العروس..
عانى أبو الحسن اليوسي العزلة والوحدة بمدينة مراكش من الوحدة، نحس بذلك في قول اليوسي في “المحاضرات”: “إن قلبي موزع في البلاد كلها، جزء منه يوجد بمراكش في شك مريب، جزء آخر يوجد في خلفون، بمنطقة على وادي أم الربيع، وأخر في مكناس مع كتبي، جزء آخر في فازاز، وآخر في ملوية بين أهلي. وجزء آخر في الغرب بين أصدقاء بالحواضر والقرى. يا ربي لم شملهم جميعا، فأنت القادر على ذلك، ولا أحد سواك يستطيع ذلك. يا ربي ضعهم في مكانهم”. وقد فجع اليوسي وهو في مراكش بخبر وفاة العالم الكبير سيدي عبد القادر الفاسي..
وفي سنة 1684م سيعود أبو الحسن اليوسي إلى فاس في فترة حكم السلطان المولى إسماعيل، وهناك أتم تأليف كتابه “المحاضرات”، وقد دعاه المولى إسماعيل العلوي للإقامة في البلاط سنة 1685م، فاكتسب بذلك وضعا اعتباريا متميزا في عهد السلطان المذكور. وتجدر الإشارة إلى أن أبا الحسن اليوسي أقام فترة من الزمن في الحاضرة المصرية، والطريف أنه لم يأتي بأي إجازة من علماء مصر..
والمثير للانتباه أن جاك بيرك في دراسته حول اليوسي يصر على التأثر الكبير لأبي الحسن اليوسي بابن عربي الحاتمي، لافتا الانتباه بهذا الصدد إلى الاندماج، في مغرب القرن السابع عشر، بين “تيارَيْ سِيَر الأولياء الشعبية والنَظَر العالِم”، وقد ذكر الإفراني في “صفوة من انتشر” خبرا طريفا هو أن اليوسي “كان يبيت في أضرحة صلحاء مراكش”.. يقول جاك بيرك :”كان تصوف ذلك الزمان يجمع بين العلوم النقلية الأكثر تفقهًا، وبين هَبَّة ريفية..”[6]، ومسألة التأثر بابن عربي لا تصح على اليوسي فحسب، بل تستوجب توسيع دائرة التأثير، كما يشهد على ذلك السريان الواسع لمفاهيم يعود أصلها إلى تصانيف الشيخ الأكبر. وإن بحثًا مستفيضًا لكيفيات هذا الانتشار وقنواته لَيستدعي تحليل عددٍ كبير من النصوص من أجل إظهار بعض العلامات، المكتومة غالبًا، لهذا “التأثير الحاتمي” الكوني المبارك..
هناك مسألة تتعلق بالإبداع الأدبي عند أبي الحسن اليوسي وكيف أنه لم يلق الاهتمام اللائق به خصوصا بالمشرق العربي، وقد ذهب الأمر إلى حد التقليل من شأن اليوسي في ميدان الأدب؛ فقد ذكر عبد الله كَنون -رحمه الله- في كتاب “في اللغة والأدب”. “سلسلة شراع، ع8، 1996″؛ أنه قرأ في عدد 24-10-1983م من جريدة الشرق الأوسط مقالا بعنوان: “شاعر سيء الحظ” للشاعر المصري أحمد عبد المعطي حجازي، تناول فيه بالنقد ديوان شعر للحسن اليوسي.. وقد تعجب عبد الله كَنون من إقدام شاعر معروف على نقد ديوان بأكمله بمجرد تصفحه، وإبداء ما أبداه من الآراء النابية في محتواه الشعري الغزير، هذا وهو لا يعرف اليوسي ولا سمع به من قبل، ولا يعلم شيئا عن أعماله العلمية والأدبية، وإنما دله عليه جاك بيرك الذي نشر كما هو معلوم دراسة قيمة حول العلامة اليوسي..
لقد اعتبر حجازي أن ديوان اليوسي ينتمي إلى عصر الانحطاط، حيث شاعت الركاكة، وصارت القصيدة خزانة للمحسنات والزخارف البالية.. ثم يقول: “على الرغم من أن شعر اليوسي ينتمي في مجمله إلى شعر العصر الذي وصفناه، فهو شعر يتفاوت، وهو ينحط في بعضه عن المتوسط، وقد يرتفع أحيانا، ويمتاز الشعر الشخصي عند اليوسي بشيء من البساطة والطلاقة، وهو يتحقق في بعض قصائد الغزل والتأمل من ذلك قوله:
إن بيـن الغَمـام والزَّهـــر الغَضِّ لَرحْمـــــــــا قديمــــة وإخــــــاءَ
بَاَن إلفٌ عــــن إلفِـه فتــــوارى في الثَّرى ذا وذاك حلَّ السّماءَ
فإذا مـا لغمـــامُ زارت جنابــــاً آذَنَـتْ فيــــه بالحبيبِ الِّلقـــــاءَ[7]
وقد علق الشاعر المصري على هذه الأبيات بقوله: “وفي هذه الأبيات سذاجة في التصور والنظم، وفيها أيضا أخطاء لغوية ونحوية، فالغمام مفرد مذكر وليس جمعا أو مؤنثا..”، وقد رد كَنّون على هذا الموقف بقوله: “قوله إن الغمام مفرد مذكر وليس جمعا أو مؤنثا، غير صحيح، بل هو اسم جنس جمعي يفرق بينه وبين مفرده بسقوط التاء، فإذا قلت غمامة نقص معناه وصار دالا على الواحد، وإن حذفت صار دالا على الجنس فزاد معناه، وهو يُذَكَّر ويؤنث، ومثله كلِمة وكلِم، ونخلة ونخل، ومن تذكيره قوله تعالى: “أعجاز نخل منقعر”، ومن تأنيثه قوله عز وجل: “أعجاز نخل خاوية” [الحاقة، 6].
و “يقيِّم” حجازي الجانب الثاني من الكتابة الشعرية عند اليوسي بقوله: المستوى الثاني لشعر اليوسي تبدو فيه المفردات غريبة مستعارة، والتعبير فيه تقريري جاف رغم الزخرفة والتحسين بالجناس والتورية والتزام مالا يلزم، والأخطاء اللغوية والنحوية والعروضية أكثر، وغالبا ما يكون هذا في الإخوانيات والمدائح حيث يطيل الشاعر دون قدرة، كما نجد مثلا في قصيدة يهنئ فيها صديقا له بالعودة من حجّته الثانية، فقد بلغ عدد أبياتها 543 بيتا لم ينج فيها من التكلف والخطأ إلا القليل النادر”.
رد العلامة كَنّون على هذا الادعاء بقوله: “القصيدة التي أشار لها الأستاذ أحمد عبد المعطي حجازي، هي دالية اليوسي التي مدح بها شيخه، وليس صديقه فقط، الشيخ محمد بناصر الدَّرعي، وهي على غرار دالية البوصيري التي مدح بها شيخه الإمام أبا العباس المرسي، أو قل عارضها بها، وهي قصيدة عامرة الأبيات جمعت من فنون الأدب الشيء الكثير، كالنسيب والأمثال والحكم، إلى شرح المَلَكة الإنسانية وآداب السلوك ومنازل السائرين في فلسفة التصوف..” وهذا مطلعها:
عرِّج بمُنعَــــرجِ الهِضــــابِ المُـــوَرِّدِ بين الِّلصابِ وبيــــــن ذات الأَرمـــدِ
وأَجِزْ من الجَــزَع الــــذي بحضِيضهِ أحداثَ أصــــــداء العَشــــــيرِ الهُمَّدِ
وارْبَعْ على الرِّبع المُحــــــيلِ هُنَيْئةً إن الرَّبوعَ ربيعُ القــــلبِ الأكْمــــدِ..
غيثَ الوَرى الشّيخَ ابنَ ناصــرِ الّذي نصــــــر الإلهُ به شــــريعةَ أحمــــدِ
وأعاد وجهَ الدّين أبيـــضَ مُسفـــرًا بَهِجــا مُقِــــرّ أعْيُــــنِ كلِّ مُوحِّـــــدِ
وأقام سَمْكَ بنائِه حتى سمَا فـوق السِّماكِ على الأَواســــي الـوُطَّد..
والعِلمُ ضــاحٍ ظِلُّهُ وصدى التُّقــــى قد صُمَّ والغَــــيُّ استطــال بأجْنُـدِ
فكشفْتَ جِلباب الجَهالةِ عـن سنـا بَـدْرٍ لســـائِمـةِ الضّــــــلالِ مُبَــــدِّدِ
يقول سيدي كنون: “فأين هي الزخرفة والتحسين والتزام ما لا يلزم؟ وأين التعبير التقريري الجاف مع هذا التصوير الممتع البليغ؟ وأين هي الأخطاء اللغوية والنحوية، والعروضية، التي زعم الناقد أنها كثيرة، أما غرابة بعض الألفاظ؛ فإنها في ذلك العصر، الذي ضعُفت فيه اللغة، تعتبر من باب الإحياء اللغوي، وتدل على أصالة الشاعر، ورسوخ قدمه في المعرفة بالأدب العربي وأسراره..”.
وأبو الحسن اليوسي أيضا نموذج لتحول مفصلي في طريقة استيعاب العلوم في عصره، ذلك أنه انتقل في مرحلة مبكرة من حياته العلمية من أسلوب الحفظ إلى التحليل والتركيب.. وكانت لليوسي منهجية تعتمد على تحليل النصوص، ولم يكن يخفي ارتيابه تجاه الرواة والنسّاخ الذين كثيرا ما كانوا يحرفون النص الأصلي ويعطونه أبعادا مغايرة، وهو ما يعني اجتهاد اليوسي وثورته على التقليد.. يظهر ذلك جليا في كتابي “المحاضرات” و “القانون”، لذلك قال عنه عبد الحي الكتاني في “فهرس الفهارس”: “هو عالم المغرب ونادرته وصاعقته في سعة الملكة، وفصاحة القلم واللسان مع الزعامة والإقدام والصدع بما يتراءى له، وكثرة التصنيف على طريق بعد العهد بمثله، وهو الكلام المرسل الخالي عن النقل إلا مالا بد منه”.. نعم تيه في سبيل العلم منذ البداية، وتميز بمقومات التركيب في اكتساب وتحصيل المعرفة.. نقلة ميزت عصر اليوسي، لكنها تلاشت تدريجيا بعده وضاعت بين ثنايا الرؤية التقليدية للعلوم التي راكمت النظرة السطحية للأشياء، فكانت النتيجة سيادة التقليد الذي ساد في جميع ميادين الحياة..
توفي أبو الحسن بعد فترة قصيرة من عودته من المشرق في 15 ذي الحجة سنة 1102هـ الموافق لـ11 شتنبر 1691م. وتم دفنه بصفرو، وبعد مرور عشرين سنة، نقل رفاته إلى مقر الزاوية الحالية بقرية سيدي لحسن بصفرو، وقبره مزارة كبرى.. رحم الله العلامة اليوسي وجازاه عن الإنسانية خيرا والله الموفق للخير والمعين عليه..
——————————————————–
1. المحاضرات، لليوسي، مقدمة الكتاب.
2. فهرس الفهارس والأثبات ومعجم المعاجم والمشيخات والمسلسلات” لعبد الحي الكتاني، تحقيق: إحسان عباس، طبع دار الغرب الإسلامي، بيروت الطبعة الثانية: 1402هـ/1982م، ج: 2، ص: 1554.
3. المحاضرات للحسن اليوسي، إعداد: محمد حجي، طبع دار المغـرب للتأليف والتـرجمة والنشر، الرباط، 1396 هـ/1976م، ص: 37.
4. فهرست اليوسي، ص: 15.
5. المحاضرات لليوسي، “ص: 37”.
6. Voir J. Berque, op. cit., pp. 40, 121-126.
7. زهر الأكم في الأمثال والحكم لليوسي، ص: 1.
أرسل تعليق