أبو الحسن علي المراكشي
استمرارا لنفس المسار الذي بدأته في الحلقات الأخيرة من “علماء وصلحاء” من التعريف بشخصيات مغربية نبغت في العلوم التطبيقية، خصوصا ميدان الطب والصيدلة والتغدية؛ فبعد الحديث عن ابن الجزار القيرواني الطبيب الصيدلاني وعالم العطور، ومحمد بن أسلم الغافقي عبقري طب العيون، نقف في هذه الحلقة مع عالم مراكشي فذ عاش خلال العصر السعدي واشتهر بتأليف الأراجيز في الطب؛ يتعلق الأمر بالطبيب أبي الحسن علي المراكشي صاحب أرجوزة “الفواكه الصيفية والخريفية”..
وهو غير أبي الحسن علي المراكشي الذي عاش في عصر بني مرين، وألف كتابا في الأمراض السرية وعلاجها وطبائع النساء وضعه باسم خزانة السلطان أبي الحسن المريني (عبد الصمد العشاب: مساهمة علماء المغرب في ميدان الطب والتطبيب، مجلة التاريخ العربي، العدد 15).
وهو غير أبي الحسن علي بن الطيب بن علي المراكشي المتوفى بعد عام 614 عـ/ 1217 م، صاحب أرجوزة “بهجة المطالع في الحفظ للمجامع”؛ وهي منظومة تبحث في تدبير الصحة الجنسية وما يتصل بها، أهداها صاحبها للسلطان أبي سعيد عثمان بن عبد الحق المريني الذي تولى عرش المغرب من سنة 614 هـ/ 1217 م إلى سنة 638 هـ/ 1240 م.
يقول عبد الله بنصر العلوي محقق أرجوزة الفواكه الصيفية والخريفية لأبي الحسن علي المراكشي (المجمع الثقافي، أبو ظبي 1999): “لا نكاد نقف في كتب التراجم المغربية على ترجمة وافية لأبي الحسن علي المراكشي. فلا نعلم بالتحديد تاريخ ميلاده وتاريخ وفاته. وإنما نستشف أنه كان بقيد الحياة خلال أواسط القرن الحادي عشر للهجرة، إذ أن مخدومه الوليد بن زيدان السعدي الذي ألف أرجوزة الفواكه، حكم مراكش خلال تاريخ 1040-1045هـ. وقد أشار بعض الباحثين إلى أن وفاته كانت خلال 1065هـ دون تعيين مصدر إحالته. والمؤلف المعني هنا هو محمد رزوق في كتابه “الأندلسيون وهجراتهم إلى المغرب خلال القرنين 16 و17 (إفريقيا الشرق، الدار البيضاء، 1989، ص: 275). لكن المعروف بدقة، أن الفراغ من نظم أرجوزة “الأيارج” كان لعشرة بقين من شوال عام 1065هـ.
ينسب أبو الحسن علي إلى الأندلس على اعتبار أصله الأندلسي، وينسب إلى مراكش لأنه ولد بها وكانت داره ومستقره، وكان قريبا من البلاط السعدي، وقد حضي بمكانة مرموقة في مجمع الأطباء والحكماء.
وإذا كانت سيرة صاحبنا أبي الحسن علي المراكشي مجهولة؛ فإن لابنيه حضورا في التراجم؛ فأبو إسحاق إبراهيم كان طبيبا، وعليه درس الطبيب الشهير عبد القادر بن شقرون، صاحب “الأرجوزة الشقرونية”، وأبو مروان عبد الملك بن إبراهيم كان طبيبا أيضا، وكلا الأخوين كان من أطباء المولى إسماعيل العلوي.
نحن إذن إزاء طبيب أنجب أطباء، بما يعني أن الأسرة كادت تتخصص في مهنة الطب بشكل يضمن الاستمرارية والتراكم المفيد للبلاد و العباد.
خلف أبو الحسن علي المراكشي آثارا علمية تتجلى في منظومات في ميدان الطب والصحة العامة، نذكر منها: “أرجوزة الفواكه الصيفية والخريفية”؛ وأرجوزة في “طب العيون” وصف فيها ثلاثة وعشرين من العقاقير المختصة في علاج أمراض العيون؛ وأرجوزة “في الأعشاب وخواصها في شفاء الأمراض”، رتب فيها الأعشاب بحسب حروف المعجم في نحو عشرة كراريس؛ ومنظومة في النكاح، وضعها أبو الحسن المراكشي في التربية الجنسية؛ وأرجوزة باسم “الأيارج” في ستة عشر بيتا، وهو في وصف معجون طبي لعلاج أورام العيون (عبد الله بنصر العلوي، مقدمة تحقيق “أرجوزة الفواكه الصيفية والخريفية، ص: 20).
ويؤكد عبد الله بنصر العلوي نسبة الأرجوزة إلى أبي الحسن علي المراكشي اعتمادا على عدة مصادر منها: محمد الصغير الإفراني في كتب “نزهة الحادي” الذي قال: “وألف له (الوليد بن زيدان) القائد علي الطبيب منظومته الشهيرة في الفواكه الصيفية والخريفية”؛ والناصري في “الاستقصا”، وعبد الرحمن بن زيدان في كتابه “المنزع”، والعباس بن إبراهيم المراكشي في “الإعلام”..
ومن أجل تقريب القارئ من أرجوزة الفواكه الصيفية والخريفية نورد بعض أبيات منها؛ قال أبو الحسن سيدي علي بن إبراهيم الأندلسي المراكشي في أرجوزته “الفواكه الصيفية والخريفية” (المجمع الثقافي، أبو ظبي 1999، تحقيق عبد الله بنصر العلوي:
الحمــــــدُ للـه علــــى النعمــاءِ والشكـرُ فــي الصَّباح والمَســاء
سبحانـــه مــــنَّ على البـــريّــة فـي كــــل صَيْـفٍ نعمـــةً طريّـه
كبيــرةً تأتــــي علــى الألــــوانِ مـن مِنّـــــةِ اللـهِ علـى الإِنسانِ
فواكـــــهٌ مختلفـــاتُ الشكـــــل فــــي لونِها وطعمِـــها والأكــــل
تبــــــدو لنا مـن أولِ المصيــــفِ إلـــى تمَـــام آخِـــــر الخَــــريـفِ
نلْتَـــــدّ فــي آلائــه الجميــــــلة من بعـد مـا أهـدى لنـا سبيــله
لكـونِنــــا مـــــن أمــة النبــــــيِّ الهاشمـــيِّ المصطفـى الأمِّـيِّ
مـن جـــــاء بالسُّنــةِ والكتــــابِ أفضلُ من مشى على التــــراب
علــيه مـلءُ الأرض مـــن صــلاةِ مـا عَـــبَقـت روائـــــح الجــنــات
وآلــــــه وصحـــــبـه الأخيـــــــارِ عـدَدَ قطـر السحــــب والبحــــار
والنصــــــرُ للخــليفـــة المختــار مـــــن آلـــه الأفاضــل الأبـــــرار
مــن عَــــزَّه إلَهُنـــــا المجيــــــدُ الملـــــــك المعـــــظّم الوليـــــد
أَدِمْـه منصــورًا علـى الأعَــــادي واجْعلـه رحمـــــةً علـى العبـــاد
مـا دامــــــت الأيــــام والزمـــان ولا يكــــــن سِــــواءه سلطـــان
وبعـــدُ فالعــــــادة عنــدَ النـاسِ الهجْـمُ فـي الأكـــل بـلا قيــاس
لاسيمــــا فـي ســـائر الفوَاكــهِ نَضَـــــجَ أو قَصَّـرَ عـــن إدراكــــهِ
حتى يَرى مُزاجَه فــي السهول فـي كـل يــوم باكـــــروا بالبــول
في طَلعةِ الفجــر على الطبيـبِ يشكو بطول الليل في التعـذيب
من بَعْدِ أَنْ يَقَـعَ فـي الأمـــراضِ وشــــدَّةِ الأوجـــــاعِ والأعْــراض
فكــــان واجبـــا علــى العِبـــــاد جميعــــهـم مــــن حاضِــر وبــاد
أن يعتنــوا بهــــــذه المقَالـــــــة لأنهـــــا تنجــى مــنَ الجَــهالــة
بهــــــذه الفـــواكـــه الصيفيــــة الخضــرة المقبِلــــــة الطــــريــة
بعد هذه المقدمة التي يتأكد لدينا من خلالها أن صاحبنا أبا الحسن علي المراكشي كتب أرجوزته حول الفواكه الصيفية والخريفية إهداء للسلطان الوليد بن زيدان بن أحمد المنصور الذهبي، كما يتبين أن صاحب الأرجوزة مدر ك تمام الإدراك علاقة الغذاء، وبالخصوص هنا الفواكه -المفيدة بإطلاق عند أكثر الناس-، بالصحة والاعتلال، خصوصا وصاحبنا ينبه إلى قضية صحية واجتماعية عبر عنها بقوله:
وبعـدُ فالعـــــادة عنـــدَ النـاسِ الهجْـمُ فـي الأكـل بــلا قيـاس
فكـــان واجبــا علــى العِبــاد جميعهـم مـن حاضِــــر وبــاد
أن يعتنــوا بهــذه المقَـــالـــة لأنهـا تنجــى مــنَ الجَهـالــة
ثم يقول:
بعد ذلك يمر المراكشي إلى تفصيل القول في أنواع الفواكه الصيفية والخريفية مبرزا الملابسات المزاجية والبيئية والثقافية لاستهلاك الفواكه بشكل يبرز حس العمق العلمي مع مراعاة أحوال الثقافة والاجتماع، وهذا بلا شك، مقصد كبير من مقاصد تعلم الطب وممارسته.
يقول المراكشي بشأن المشماش:
أول مــا يبـــدو لنـــا المشـــماش عن كـــل ضــر حــــارص فتــــاش
ذو صــولة تســطو على الأجساد بسرعـــــة لجــــهــــة الفســـــاد
وجـــاء مــن أسمائــــه البرقـــوق والنــــاس فـــي تعريفـــه فـــروق
وطبـــعــــه للبــــــرد والتــــــليين في الرتبة الوسطى علـى اليقين
إلى أن يقول المراكشي:
وشــــره المــــرّ كثير المــــاء إذ مـــــاؤه مــــولــــد للــــداء
لا تـأكل المشماش بالعشية فـــإنــــه يـــــورث البــــليــــة
ولا الـــذي يبيت فــي الجنان من بعـــد قطفه من الأغصان
إصـلاحـــه ببـــزر الأنيســـون أو بـزر نـــــافـــــــع (….)……
لنلاحظ هنا بعض المسائل العلمية المفيدة في ما ذكره المراكشي حول المشماش: قوله المرّ من المشماش كثير الماء مولد للداء مسألة ندركها اليوم في علم التغذية المعاصر، وهي أن جل الفواكه المنتمية لعائلة الورديات تراكم مادة الحامض السيانيدري (acide cyanhydrique) إذا كانت مُرّة، ومعلوم أن اللوز المر ونواة المشماش غنية بهذه المادة السامة المضرة؛ الفائدة الثانية أن المشماش الذي يقطف ويترك ليبيت في الجِنان مضر، وهذه مسألة مفهومة وفق قواعد علم الجراثيم، بحيث أن الفاكهة تصبح أكثر عرضة للتعفن إذا ما أزيلت من شجرها، والفائدة الثالثة أن إصلاح المشماش المؤدي إلى ضرر يكون بالأنيسون، وهي النبتة المعروفة عندنا في المغرب بحبة حلاوة (anis vert)، ويصلح أيضا ببزر نافع، أي بذور البسباس، وهو ثمار أتبث العلم أنها طاردة للغازات ومسهلة للهضم وقاتلة للجراثيم.. وهذا مبحث نبيل يندرج ضمن ما يسمى علم المصحِّحات (les correctifs)، برع فيه المغاربة منذ القديم، وتحفل به كتب الطب والتغذية المغربية (أنظر مقالنا (épices et aromates dans l’art culinaire marocain)، بمجلة (horizons maghrébins) عدد سنة 2009 (تولوز، فرنسا) في ملف خاص عن الأكل والتغذية في المغرب العربي).
ويقول المراكشي في أرجوزته عن الكمثري (الإجاص):
الكــمــثري مزاجــــه البـــرودة تتبعها اليبـــوســـة الشديـــدة
احسبه فـي الفاكهة الرفيـــعة وإن يكــن يمسـك للطبيــعـــة
غـــــذاؤه ودمـــــــه محمـــــود قريــــب خيــــر شــره بعيـــــد
إن شئت عـــده من السّفرجل لكنــــه أصلــــح للمــعتــــــدل
وفجــــه بطـــــيء الانهضــــام وخيره الأكــــل على الطـــعـام
أنهـــاك أن تقــــربه صبـــاحــــا فإنــــه يــــولــــد الريــــــاحــــا
ولا لمــــن تعتــــاده الأوجــــاع ليـــس له فـــي أكله انتفــاع
تخــــاف من قولنجــه البطــون وفجـــــه أضــــــر ما يكـــــــون
يوكل في الليل وفــي العشية وبعــدما يقضــى من الأغذيـــة
مرة أخرى ندرك عمق هذا الرجل الفاضل، وتجربته الكبيرة في علم الطب الغذائي، بالإضافة إلى معرفته الكبيرة بالأنواع النباتية وتصنيفاتها، وهو هنا يبرز أهمية معرفة الأوقات المفضلة لاستهلاك الفواكه المختلف لكيلا تؤكل كما اتفق، كما جرت العادة بذلك، وهذا يدل على المقاربة الشمولية للصحة العامة التي كانت المنهج المفضل عند الأطباء المغاربة، وليس غريبا أن يتتلمذ العلامة عبد القادر بن شقرون على ابن صاحب أرجوزة الفواكه الصيفية والخريفية.. وأريد أن أؤكد في هذا المقام أن بلدنا الطيب عرف استمرارية علمية في مجال العلوم التطبيقية بالخصوص منها علم الطب والتغذية، إلى حدود القرن التاسع عشر، ووجب إثارة الاهتمام لهذا التراث العلمي المفيد والبحث عن الأسباب العلمية والثقافية والسياسية التي أدت إلى انحساره، من أجل إعادة الاعتبار لعلوم الطبيعة بالمغرب، وهذا في اعتقادي، خيار حضاري وإنساني لا مندوحة عنه إن نحن أردنا معانقة التفوق من جديد…
وبعد، فقد سعيت من خلال هذه المقالة إثارة الاهتمام إلى عالم طبيب فذ، ترك تراثا علميا يحتاج إلى دراسة وتحقيق، وقد أحسن الدكتور الفاضل عبد الله بنصر العلوي بتحقيق أرجوزة “الفواكه الصيفية والخريفية”، وأنا أدعو القارئ الكريم للاطلاع على عمله للتعرف عن قرب على الأرجوزة بكاملها وأسراها العلمية والعملية.
رحم الله أبا الحسن علي المراكشي وجازاه عن المغرب والإنسانية خيرا، والله الموفق للخير والمعين عليه.
أرسل تعليق