آداب طريق الاستقامة
قال الله تباركت أسماؤه: “فَمَنْ يُّرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلاِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَذِينَ لاَ يُومِنُونَ وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا قد فَصَّلْنَا الاَيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ لَهُمْ دَارُ السَّلامِ عِندَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ” [الاَنعام، 126-128].
الصراط المستقيم، هو آية هذا الدين، وحجّته البالغة، ومحجّته الواضحة، وطريق الجادّة الذي يؤدّي إلى دار السلام، وشاطئ الأمان، ولذلك يفتقر إليه المبتدئ في بدايته، ولابد للمنتهي منه في نهايته، ومداره على أربعة أمور:
أولها: تصحيح التوبة بإقامة شروطها الثلاثة التي هي الندم على ما فات، والإقلاع في الحال، والنية والعزم على ألا يعود، وبتحصيل فرائضها الأربع التي هي رد المظالم، وقضاء الفوائت، واجتناب المحارم، وصدق التوجه إلى الله ودوام اللجوء إليه؛
الأمر الثاني: من آداب الطريق؛ تحقيق القوى باتباع الأوامر والانكفاف عن الكبائر..
وحاصل التقوى وثمرتها ترك المحرمات المشهورة المعلومة المتفق عليها، والاجتهاد في التحفظ من ذلك حتى تنطبع به النفس؛
الأمر الثالث: وجود الاستقامة في جميع الأحوال، والاستقامة هي التخلق بأخلاق القرآن والسنة، ومدارها على أربعة أمور:
• ضبط الأوقات؛
• والتحرز من الآفات؛
• والتحصن من التقلبات؛
• والتأدب مع الحالات..
فضبط الأوقات أو مراقبة الأوقات بمراعاة واجب الشرع في الوقت وما يليق به، وإعطاء كل ذي حق حقه كما يشير إليه الأثر الذي رواه أبو ذر رضي الله عنه: “وَعَلَى الْعَاقِلِ مَا لَمْ يَكُنْ مَغْلُوبًا عَلَى عَقْلِهِ أَنْ تَكُونَ لَهُ سَاعَاتٌ: سَاعَةٌ يُنَاجِي فِيهَا رَبَّهُ، وَسَاعَةٌ يَتَفَكَّرُ فِيهَا فِي صُنْعِ اللَّهِ، وَسَاعَةٌ يُحَاسِبُ فِيهَا نَفْسَهُ، وَسَاعَةٌ يَخْلُو فِيهَا بِحَاجَتِهِ مِنَ الْحَلالِ. وَعَلَى الْعَاقِلِ أَنْ لا يَكُونَ ظَاعِنًا إِلا فِي ثَلاثٍ: تَزَوُّدٍ لِمَعَادٍ، وَمَرَمَّةٍ لِمَعَاشٍ، وَلَذَّةٍ فِي غَيْرِ مُحَرَّمٍ“. وتمام ضبط الوقت يكون بالتحفظ والتحرز من تضييعه وإهداره فيما لايعود بفائدة؛ وهو الأمر التالي.
والتحرز من الآفات؛ بمراقبة الحركات والسكنات، إذ لكل وقت واجب، ولكل مقام أدب، وحركة الإنسان لا تخرج عما ذكره بعض العارفين حين قال: “يريد الله تعالى بالإنسان أربعة أشياء: إما نعمة، أو بلية، أو طاعة، أو معصية. فإذا كنت في النعمة فالله تعالى يقتضي منك الشكر شرعا، وإذا ابتليت ببلية فالله تعالى يقتضي منك الصبر شرعا، وإذا أراد الله بك الطاعة فالله يقتضي منك شهود المنة ورؤية التوفيق شرعا، وإذا ابتليت بمعصية فالله تعالى يقتضي منك التوبة والإنابة إليه شرعا”. وقال أبو العباس المرسي: “أوقات العبد أربعة لا خامس لها النعمة والبلية والطاعة والمعصية، ولله عليك في كل وقت منها سهم من العبودية يقتضيه الحق منك بحكم الربوبية”.
ومن أقوالهم: “الفقير ابن وقته أي يتأدب معه ويعطيه حقه كما يتأدب الولد مع أبيه”.
والتحصّن من التقلبات، إنما يكون بإبعاد القلب عن أسباب الغفلة واتباعها، والتحفظ من الأغيار المكدرة.
وأما التأدّب في الحالات، فيكون بحسب كل حالة على حدة؛ كما قال أبو الحسن الشاذلي رحمه الله: “أربعة آداب إذا خلا المسلم السالك منها فاجعله والتراب سواء: الرحمة للأصاغر، والرحمة للأكابر، والإنصاف من النفس، وترك الانتصاف لها، وأربعة آداب إذا خلا المسلم المنتسب منها فلا تعبأن به، وإن كان أحدهم أعلم البرية: مجانبة الظلمة، وإيثار أهل الآخرة، ومواساة ذوي الحاجة والفاقة، والمواظبة على الخمس في الجماعة“.
فهذه خمسة أمور أو بالأحرى خمسة آداب يتوقف عليها طريق الاستقامة؛
الأمر الرابع: من آداب الصراط المستقيم رفع الهمة عن الخلق ومقدمة ذلك بصيرة نافدة وأنوار متزايدة وآداب ثابتة، سئل الجنيد تاج العارفين كيف السبيل إلى الانقطاع إلى الله تعالى؟ فقال: بتوبة تزيل الإصرار، وخوف يزيل الاغترار، ورجاء يبعث على العمل، وتذكير النفس بقربها من الأجل وبعدها من الأمل، وقال أبو الحسن الشاذلي: “عمى البصيرة في ثلاثة أشياء: إرسال الجوارح في معاصي الله، والتصنع بطاعة الله، والطمع في الخلق، فمن ادعى البصيرة مع واحدة من هذه الآفات، فهو مدع كاذب“، وقال رحمه الله: “الزم بابًا واحدًا تُفتح لك الأبواب، واخضع لسيِّد واحد تخضع لك الرقاب، وخف من الله خوفًا تأمن به من كلِّ شيء، لا تنقل قدميك إلا حيث ترجو ثواب الله، ولا تجلس إلا حيث تأمن غالبًا من معصية الله، ولا تجالس إلا من تستعين به فى طاعة الله، ولا تصْطَفِ لنفسك إلا من تزداد منه يقينًا بالله.. قال الله تعالى: “وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ اِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ” [الحجر، 21]، ولأن يغنيك الله عن الدنيا خير لك من أن يغنيك بها، فو الله ما استغنى بها أحد قط، وكيف يستغنى بها بعد قوله تعالى: “قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ” [النساء، 76]، ثم قال: “إن من أشقى الناس من يحب أن يعامله بكل ما يريد وهو لا يجد من نفسه بعض ما يريد، وطالب نفسك بإكرامك للناس ولا تطالبهم بإكرامهم لك “لا تكلف إلا نفسك” وإن أردت أن تكون مرتبطاً بالحق فتبرأ من نفسك واخرج عن حولك وقوتك“.
أرسل تعليق